عمل قدّمه زكريا الزبيدي آخر «أولاد أرنا» خميسغالب كيوان
إذا كانت مهمّة المسرح المقاوِم، شدّ العزائم واستنهاض الهمم، فأفضل ما يؤكد هذه المقولة هو «مسرح الحرية» في مخيم جنين. افتتح المسرح أخيراً العرض الأول لـ«شظايا فلسطين» التي اعتُبرت نقلةً نوعيةً في تاريخ مسرح المقاومة، وفق المنتجين والنقّاد المسرحيّين الفلسطيّنيين والأجانب الذين حضروا المسرحية. ويتوقع أن تُعرض قريباً في دول أوروبية عدة، لا لأنّها عمل فلسطيني من مخيّم جنين، بل لأنّها تميّزت بجودتها وبراعة الإخراج والتمثيل، وخصوصاً الأداء الحركي والرقصات، فضلاً عن أنّها مسرحية صامتة تعتمد الموسيقى والمؤثرات الصوتيةشظايا فلسطين» عبارة عن مجموعة صور. هكذا صنّفها مخرجها نبيل الراعي ابن مدينة بيت لحم. تقارب المسرحية الرواية الفلسطينية والاحتلال من محاور مختلفة: جرائم الكيان الصهيوني بحقّ الشعب الأعزل، الاقتتال الداخلي بين «فتح» و«حماس»، والتشتت والانقسام بين الشعب الواحد، وقضايا المرأة والمجتمع، وصور واقعية شخصية تعبِّر عن معاناة الأفراد. هكذا، نشاهد أحياناً تعبيراً حركيّاً للممثلين على أنغام موسيقى عالميّة، ثم ننتقل بسرعة لنسمع مقطعاً قصيراً للشاعر محمود درويش فتتغير الصورة والمشهد... ومن ثم نقلة حادة إلى مايكل جاكسون ورقص صاخب. بعدها، ينتقل المخرج ببراعة وسرعة فائقة إلى مشاهد مؤثرة عدّة مثل زفاف يتحوّل إلى رحيل وهجرة مأساويين، عناصره الطرد والاحتلال والقهر، فيما تواجه المقاومة عدواً في غاية التنظيم، تختبئ وتناور في أكثر الأماكن التي لا يمكن تصوّرها وتخيّلها. وتتوالى الصور: تشييع شهيد يرفض أن يدفن. سور خرساني وأسلاك كهربائية تخنق الجبال. أطفال يولدون ليموتوا من أجل الحرية. الحياة العادية في ساعات حظر التجوال في وقت متأخر من الليل، وأحلام الهزيع الأخير عند البحر.

انتقد المخرج محاولة إحراق «مسرح الحرية» الذي يمثّل جزءاً من المقاومة
اختيار المخرج نبيل الراعي لهذا الجنس المسرحي، وتقديم العمل كعرض صامت، جعله أكثر تأثيراً وحدةً. إذ لم ينبس الجمهور ببنت شفة طوال فترة العرض. وبعد انتهاء المسرحية، بدت وجوه الحاضرين مكفهرّة وبعضها علتها الدموع. يقول نبيل الراعي: «مسرحية «شظايا فلسطين» صامتة لكون فلسطين حالة غير مقروءة ولا يمكن التعبير عنها بالكلمة. هي عبارة عن شظايا بينما تعرض المسرحية هذه الشظايا محاولةً لملمتها».
زكريا الزبيدي قائد كتائب شهداء الأقصى سابقاً، كان لسنوات عدّة على رأس قائمة المطلوبين من أجهزة الأمن الإسرائيلية. وهو أحد مؤسسي «مسرح الحرية» في مخيم جنين. إذ جمعه القدر مجدّداً مع الممثل المخضرم جوليانو مير خميس المدير الحالي لـ«مسرح الحرية»، فأسّسا معاً المسرح في قلب المخيم. أما جوليانو، فهو نجل القيادي الشيوعي البارز صليبا خميس، والمناضلة اليهودية أرنا مير. حازت أرنا «جائزة نوبل البديلة» عن تأسيسها خلال فترة الانتفاضة الأولى «مسرح الحجر» في منزل والدة زكريا الزبيدي الذي كان آنذاك طفلاً. يومها، احتضنت أرنا أطفال المخيم وأسّست فرقة مسرحية استشهد كل أعضائها لاحقاً في عمليات استشهادية، ولم يبق سوى الزبيدي الذي أصبح قائد كتائب شهداء الأقصى في جنين، واستشهدت والدته وشقيقه بنيران القنّاصة الإسرائيلين بعد اجتياح المخيم.
جوليانو مير خميس الذي صوّر تلك التجربة الاستثنائيّة في فيلم بعنوان «أولاد أرنا»، بات واحداً من أشهر الممثلين في إسرائيل، سواء في السينما أو المسرح، لكنّه ترك عمله في البلاد ليكمل مسيرة والدته. وها هو يقطن منذ سنوات عدّة في جنين، حيث كان المشرف الفني لـ«شظايا فلسطين». وهو يؤكد أنّ الفن يجسّد الواقع، والرسالة المسرحية أُوصلت حتى من دون استخدام الحوار. يقول: «عملنا لأشهر كي يبصر هذا العمل النور، ولا أراه عملاً صعباً أو معقّداً، لكون القصة من صلب الواقع لا تحتاج إلى المناورات التي يستخدمها الإسرائيليون في مسرحياتهم وأفلامهم ليتقاسموا مع الفلسطينيين دور الضحية. الممثلون هنا من المخيم والضفة، يعيشون هذه المعاناة. لذلك، هم أفضل من يجسّدها. ولهذا السبب نجح العمل وتأثر الجمهور به، الأجنبي والفلسطيني معاً».
أما زكريا الزبيدي، فيؤكد أنّ تأثيره في كونه مقاوماً على الممثلين واضح، لكنّه يريد إيصال رسالة مهمّة، على حد تعبيره، هي أن الفن جزء من المقاومة. ويقول: «المسرح ثورة ثقافية، ناجي العلي لم يقاتل بسلاحه، بل بكاريكاتوراته، محمود درويش بشعره وقلمه، سميح القاسم بشعره وأغانيه...».
وينتقد الزبيدي بشدة محاولة إحراق المسرح قبل أشهر من بعض المتزمّتين: «هؤلاء جهلة. المسرح ينقل وجهة نظر المقاومة، وهو منبر ثقافي يقدّم رؤيتها أيضاً. المسرحية اليوم ترفض الاقتتال الداخلي في الوطن الذي يعدّ نقطة سوداء في تاريخ الشعب الفلسطيني، وتعبيراً عن الاحتلال وما يخلّفه من معاناة للشعب الفلسطيني. نحن قاومنا من أجل الحرية، وما يحتاج إليه الشعب الفلسطيني هو الحرية كي يحدّد مصيره. و«مسرح الحرية» في قلب جنين جزء من مقاومتنا بوصفنا شعباً، كي نحظى أيضاً بحريتنا الثقافية أيضاً».