المجالس الأدبية في المدينة التي تبعد مئة كيلومتر جنوبي بغداد، تقليد يعود إلى القرن الماضي. بعد سنوات القمع، انبعثت لتعوّض غياب المراكز الثقافيّة والمسارح

بغداد ــ كريم القاسمي
بين شاعر وقاصّ وفنان ومختص في التاريخ والتراث، يحتشد كل ليلة عشرات المثقفين في «صالون الحاج مالك عبد الأخوة» الثقافي، وسط مدينة الحلَّة، مركز محافظة بابل، ويستمرّ سمرهم إلى ما بعد منتصف الليل. ما إن تدخل المكان حتى تستقبلك رائحة البخور ومزاح صاحب الدار الذي قد يسألك من دون معرفة سابقة «هل استأذنت من «الداخلية»؟ ويلك إن لم تفعل من مساءلة النسوان!».
أخذ الجميع أماكنهم، فالليلة مخصَّصة لعرض حدث من تاريخ الحلة، أو بابل التاريخية، إضافةً إلى قصائد جديدة قد يلقيها الشاعر موفق محمد. والأخير شاعر لا يمكن السيطرة عليه، ولا يمكن أحداً أن يتوقع شكل قصيدته. قد يتعرض للملابس الداخلية لنساء الحكام العرب، مؤكداً أن لا أحد غير الموساد يعرف ألوانها. قد يستذكر أيضاً مأساة ابنه الذي قتل ولم يُعثر على جثته، أو يفيض برقّة الغزل الحلِّي، أو يسافر عبر الأزمان في أزقة الحلة ونهرها وأيام عشقه الأول فيها.
تعود الصالونات الثقافية في الحلة إلى بدايات القرن الماضي، إلَّا أنَّ الظروف التي مرَّ بها العراق، فضَّت المجالس خوفاً من غضب السلطة خلال العقود الثلاثة الماضية، وخصوصاً أنَّ التجمُّعات كانت موضوعاً مفضّلاً للتقارير الأمنية. أشهر صالونات الحلّة هي صالونات آل قزوين وآل مرجان والشلاه وعبد الأخوة، وقد عادت إلى الواجهة في السنوات الأخيرة، وفي البيوت نفسها حيث كانت تقام منذ مئة عام. يقول الحاج مالك عبد الأخوة: «كان جدي يمتلك صالة تسمى «البراني» يجلس فيها الشعراء والمثقفون خصوصاً الشعراء الذين ينظمون الشعر الشعبي».
تتمحور أغلب المشاركات في الصالونات الأدبية حول القصائد والفن والأدب والقصة، إضافةً إلى الطرائف والمشاهد التمثيلية والإصدارات الحديثة. حسام الشلاه، صاحب صالون الشلاه الثقافي، يستعيد أيام طفولته حيث كانت دارهم في منطقة الجامعين وسط الحلّة، ملتقى للأدباء في الأربعينيات. «كان الحاضرون يقدِّمون المساعدة لمن يحتاج ويعودون المريض في الحي ويتجاذبون أطراف الحديث والسمر لساعة متأخرة من الليل، لكن فترة القمع التي عاشها العراق منذ نهاية السبعينيات وسياسة الإرهاب التي مارسها النظام السابق، جعلت التقاء أي مجموعة من دون مناسبة اجتماعية، أمراً تخشى عواقبه».
في ظلِّ غياب مؤسسات الدولة الثقافية من جهة، وشح الدعم المالي للأنشطة الثقافية من جهة أخرى، تحاول الصالونات تنشيط الحياة الثقافية في بابل. اختيرت المدينة العام الماضي لتكون عاصمة للثقافة العراقية، لكنّها تفتقر إلى أماكن تحتضن إبداعات أدبائها وفنانيها. لم يكن مستغرباً والحالة هذه، أن يلجأ المخرج والممثل سعد علي ناجي إلى عرض مسرحيته «الحائط» في حديقة البيت الثقافي لأنّ المسرح الوحيد في المدينة يشهد عرض مسرحية أخرى. أمّا قرار إنشاء «قصر الثقافة» فيواجه مشاكل روتينية في المكان والتمويل المخصص له، كما تحتاج فكرة تحويل قصر الرئيس السابق في بابل إلى قصر للثقافة إلى وقت طويل قبل إقرارها. في ظلّ ذلك، تبدو الصالونات الثقافية كأنها تسهم على طريقتها بتحريك العجلة الثقافيّة، أمام ضعف الإمكانات المادية. هي مفتوحة لكلِّ من يريد حضورها سواء من الأدباء المعروفين أو من الشباب. ويتطرق الصالون إلى مواضيع أخرى مثل التربية الجنسية عند فوكو التي قدم لها الشاعر جبار الكواز في إحدى الأماسي، والعولمة والأزمة الاقتصادية ومواضيع يقدمها عادة أكاديميو جامعة بابل.
وحدها السياسة تبقى منبوذة من الصالونات الثقافية حتى في ذروة الانتخابات. يكتفي الحاضرون هنا بتداول آخر النكات عن المرشحين، مبتعدين تماماً عن الخوض في السياسة... رغم أنَّ بعض السياسيين والمسؤولين يحضرون هذه الصالونات. في ليالي الحلّة، يمكن المرء أن يمسك بلحظة حلم جميل تأخذه بعيداً عن الراهن المتشنّج والممزّق، في هذا الزمن العراقي (والعربي) الصعب.