حسين بن حمزةفي كتاب «لا أمل لي بهذا الصمت» (دار الجمل)، يدعونا إسكندر حبش إلى قراءة ثانية لمجموعاته الشعرية الأربع. ما قرأناه متفرقاً بحسب سنوات الإصدار السابقة، نقرأه اليوم مجتمعاً. هل نجد فارقاً في القراءتين؟ الإجابة هي نعم بالتأكيد. تجاور مجموعاته الأولى هذه، وتتابعها في مجلد واحد، لا بدَّ أن يثيرا انطباعات مختلفة حول الشعر الذي في داخلها. ليست كلها انطباعات مستجدّة، لكن الجديد فيها أنها مزيج من انطباعات سابقة وأخرى متولدة من القراءة الراهنة. أول هذه الانطباعات أن القارئ يجد منعطفاً واضحاً بين مجموعة حبش الأولى “بورتريه لرجل من معدن” (1988) وبين ما تلاها. هذه الباكورة عقدت صلات شعرية مع بواكير أخرى لشعراء شبان بدأت تجاربهم في الفترة نفسها من ثمانينيات القرن الماضي. لقد قُرئ اسكندر حبش كواحد ممن أطلقت عليهم تسمية «جيل الحرب» إلى جانب فادي أبو خليل ويحيى جابر وبلال خبيز ويوسف بزي...
وإذا كان ما جمعهم لم يعدْ على ما هو عليه اليوم، فإن اللحظة التي قُدِّموا فيها كاقتراح جماعي (وفردي في الوقت نفسه) لا تزال قابلة للبناء عليها ودراستها. لا يزال ممكناً أن نضع على رف واحد: «غيوم طويلة... إني أتذكر» لأبو خليل، و«بحيرة المصل» لجابر، و«ربما ذكرى هواء» لخبيز، و«المرقط» لبزي. في مكان ما، كانت هذه المجموعات حزمة شعرية واحدة مكتوبة في الزمن المديني المتشظي الذي نتج من الحرب الأهلية. ثمة إمكانية أيضاً لتتبّع مآلات هذه التجارب ومصائرها انطلاقاً من البداية ذاتها. لا مجال هنا للاسترسال، لكن الفكرة صالحة للقول إن باكورة اسكندر حبش المصحوبة بالحرب لم تواظب على تغذية قصيدته اللاحقة بمناخ الحرب والحساسيات التي صنعتها. مال حبش إلى كتابة خافتة وكتومة. لم يكن ذلك انقلاباً حاداً. الخفوت والكتمان كانا موجودين في باكورته أيضاً. ظلت القصيدة شأناً شخصياً. الفرق بين الحالتين أن الشاعر أوغل أكثر في جملة شعرية متحررة من موضوعها، منفتحة وقادرة على لمّ شمل مذاقات وطموحات ومشاغل متعددة: السيرة والطبيعة والغناء والشجن الداخلي والوحشة والرثاء. في الباكورة، قرأنا: «كان ليل/ وكانت محلات إلى الجانبين/ وأضواء النيون مطفأة/ كان ليل/ وكان نورٌ مفاجئ/ سمعنا بعده حطام زجاج يتناثر/ وتركنا خلفنا/ أصدقاء لا يذكرون/ كيف أن بإمكان الشمس/ أن تبزغ فوق قراهم».
هذا العالم المديني المحطم والضيق خفَّ حضوره المباشر لمصلحة نبرة أقل عنفاً. لنقرأ من مجموعة «نصف تفاحة» (1993): «ها أنا أتناول وداعتي/ ملعقة/ ملعقة». ومن «تلك المدن» (1997)، نقرأ رثاءً موارباً للأب والطفولة: «أسمعك يا أبي/ وأنت تغادر العتبة/ لكني لا أوقظ المياه/ لا أدعو المسافرين إلى الوليمة/ هي أيام ستمضي/ هي أوراق ستسقط في الثلج/ من شجرتك/ التي غرستها هناك». في «أشكو الخريف» (2003)، قصيدة طويلة في 32 مقطعاً تسودها لغة جوانية مليئة بالتساؤلات الوجودية: «أنا أيضاً/ تعبتُ من صوت الغيوم/ الذي يمرُّ خلسة/ ولا نسمعه/ أنا أيضاً/ أشكو الخريف».
ما يجمع بين المجموعات الأربع هو النبرة الخافتة: «شعر اسكندر حبش خافت، لكن خفوته يُسمع من بعيد»، هكذا كتب وديع سعادة على غلاف الكتاب.