بعد أن ألغى الفنّان حفلاته في لبنان، عودة إلى القضيّة التي تتناولها اليوم نورا جنبلاط رئيسة «مهرجانات بيت الدين»، في مؤتمر صحافي تستضيفه وزارة السياحة

بيار أبي صعب
الضجّة التي أثارتها مشاركة جاد المليح في «مهرجانات بيت الدين»، لم تكن مفاجئة... ولعلّها كانت بمعنى ما في مكانها. وحملة الاحتجاج التي اندلعت ضدّ مشاركة الفنّان المغربي ــــ الفرنسي في مهرجان ثقافي لبناني، قد تكون ــــ في جانب منها، ذلك الأبعد عن الغوغائيّة والعشوائيّة ــــ مطلوبة وصحيّة، بل ومطمئنة أيضاً. الآن، وقد أعلن مدير أعمال المليح إلغاء العروض الثلاثة لـ«أبي الذي في الأعلى» التي كان من المقرّر تقديمها منتصف الشهر المقبل في لبنان، يمكننا القيام بجردة حساب هادئة، وطرح بعض الأسئلة، واستخلاص الدروس التي قد تفيدنا في المستقبل.
من المفيد أن يعرف أي فنّان في العالم، بغضّ النظر عمّا بات يعرف بـ«قضيّة جاد المليح»، أنّه لا يستطيع أن يأخذ مواقف إيجابيّة، ومتحمّسة، إلى جانب إسرائيل «دولة الحقّ، وبلد الجمال»، ثم يأتي إلى لبنان كأنّه قادم في زيارة سياحيّة إلى منتجع خلاب على شاطئ المتوسّط، الناس فيه تحب الحياة، وتتحدّث كل اللغات، وترحّب بالوافدين وتحتفل بهم. وبعدها يعود من حيث أتى، محمّلاً بذكريات جميلة عن هذا «البلد الصغير الفاتن والمضياف... الذي تتلاعب به الأهواء الخارجيّة».
كلّا، فإسرائيل بالنسبة إلى كثير من اللبنانيّين والعرب (غالبيتهم العظمى كما نأمل ونتصوّر) كيان غاصب، وظالم، ومن ينصرها يصبح شريكاً في هذا الظلم. إسرائيل دولة مغيرة معتدية، نحن في مواجهة معها على شتّى المستويات، وأوّلها المستوى الحضاري: أي إن جزءاً أساسياً من معركتنا يكمن في مخاطبة الرأي العام الذي لا تصله بالضرورة صورة حقيقية عن واقعنا المعقّد، ومعاناتنا الإنسانيّة، وصراعاتنا من أجل استعادة حقوقنا المسلوبة، وتطلعاتنا إلى تحقيق مستقبل أفضل يقوم على الحقوق المدنيّة والعدالة والديموقراطيّة، ويتسع لسلام شامل وعادل في هذه المنطقة من العالم. وكل فرصة ينبغي استغلالها لإقناع العالم بعدالة قضيّتنا.
وهنا نصل إلى السؤال المفصلي: هل ما يجمع جاد المليح بإسرائيل هو علاقة عضويّة وانتماء كامل وارتباط نضالي خطير إلى هذا الحدّ، كي يحول الغضب الشعبي دون مجيئه إلى لبنان؟ في مقالتنا السابقة التي أثارت ردود فعل كثيرة (الأخبار»، 28/6/2009)، لم نقم بـ«تبرئة» هذا الفنان المغربي، المنحدر من عائلة يهوديّة، من تعاطف محتمل مع إسرائيل. لقد حاولنا لفت الأنظار إلى أن كثير من الاتهامات التي وجّهت إليه وتناقلتها وسائل الإعلام عن مواقع إنترنت ومدوّنات وإيميلات مسعورة، تفتقر إلى الدقّة، بل تجانب الحقيقة في أماكن عدّة. كلا، ليس جاد إسرائيليّاً، ولم يخدم في جيشها، وليس «سفيرها لدى الفرنكوفونيّة» كما قيل! أما الصورة المنتشرة له في ملابس الميدان فمركّبة، وهي ضمن مجموعة صور مشابهة لفنانين فرنسيين من الديانة اليهوديّة، ينسب إليهم الموقع شهادات إطراء لـ«تساهال»، وقد نفى مدير أعماله جيلبير كولييه أي مشاركة للفنّان في مثل هذه الحملة.
نعم، زار المليح «إسرائيل». زارها للمرّة الأولى في حياته عام ٢٠٠٦ لتقديم عمله «الآخر هو أنا» في القدس المحتلّة. هذا يزعجنا حتماً، لكنه أمر طبيعي بالنسبة إلى أي فنّان فرنسي. والريبورتاج المتداول على النت الذي أنجزته محطة M6 الفرنسيّة للزيارة لا يتضمّن أي تصريحات ديماغوجيّة كبرى تضامناً مع الكيان الصهيوني. ترافق الكاميرا الفنان في الطائرة والكواليس وخلال الحفلة، فيقول خوفه، و«انفعاله» لأنه يزور القدس للمرّة الأولى. هناك فقط وثيقة، يمكن أن تثير الغضب، وتدين الفنّان من وجهة نظرنا، هي الحوار الذي أدلى به إلى موقع «غرفة التجارة الإسرائيليّة ـــــ الفرنسيّة»، يعود فيه إلى زيارته المقدسيّة تلك، ويتجاوب مع الأسئلة التي تتعمّد أخذه في هذا الاتجاه، بردود ملؤها الإعجاب والمديح. هذا الإعجاب الأعمى كان من الممكن أن يكون مادة نقاش موجع مع الفنّان، لو أتيح لنا ذلك هنا في بيروت، وحافزاً على مواجهته بالجانب الفظيع، المطموس، من الحقيقة: الجانب الذي قد لا يراه هو، بطبيعة تكوينه وتكوّن وعيه وآليات التكييف الذي يخضع له في موقعه.
أن ينتمي جاد المليح إلى «بيئة» أو «مناخ» متعاطفين مع إسرائيل، بشكل ضمني وأوتوماتيكي، فهذا ـــــ إذا صحّ ـــــ لا ينبغي أن يفاجئ أحداً. هذا التعاطف لدى بعض المنحدرين من الجاليات اليهوديّة في الغرب، مبنيّ على وعي أسطوري، وأحياناً على عصبيات، وفي كلّ الأحوال على ذاكرة اضطهاد طويلة (في أوروبا) وَجدت، بشكل عبثي، خلاصها السحري في «أرض الميعاد» («شعب بلا أرض... لأرض بلا شعب» أليس كذلك؟). لكنّ هذه الشريحة الواسعة في الغرب لم نحسن يوماً مخاطبتها كعرب، أو الوصول إليها وإقناعها بحقيقتنا وحقوقنا وعدالة قضيّتنا. فهل تساعدنا في ذلك أبلسة المليح؟ علماً بأن الأخير لا تشتمل أعماله الفنيّة، من مسرح وسينما وغيرهما، على أدنى انحياز معلن أو مستتر للسياسة الإسرائيليّة... أو أي ترويج للفكرة الصهيونيّة.
هناك موقف آخر معلن للمليح، من شأنه أن يخلق من الجانب العربي حالة عداء فوري: مشاركته في حفلة تضامنيّة مع أهل الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط، إلى جانب مثقفين وفنانين ورجال أعمال صهاينة بينهم برنار ـــــ هنري ليفي وباتريك بروييل. الفنان الذي ليس منظّراً أيديولوجياً خطيراً، يرى ربّما أنّ في خطوته تلك دفاعاً عن «الحقّ»... وقد فاته للأسف أن الشخص الذي يطالب بإطلاق سراحه لم تخطفه عصابات لتهريب المخدرات مثلاً، بل هو جنديّ أسر في موقعة حربيّة، وهو رمز جيش احتلال دموي وشرس، من حق الشعوب المضطهدة أن تقاومه بكل ما أوتيت من قوّة وإمكانات... وهو حقّ تضمنه شرعة حقوق الإنسان نفسها. هذا الكلام، هناك من كان يفضّل أن يقوله لجاد المليح مباشرة في بيروت، بدلاً من تحويله إلى ضحيّة... انبرى للدفاع عنها ـــــ على حين غرّة ـــــ أحد هواة الفنّ والثقافة: النائب المنتخب سامي الجميّل!
هذه هي مواقف جاد المليح التي تجرحنا في الصميم، رغم أنها لا تندرج في سياق سلوك منهجي متكرّر ومتواصل في خدمة إسرائيل. لم نجد غيرها، ولم نقع على غيرها منذ ظهوره في دائرة الضوء. وهي أكثر من أن تسمح لنا بعدّه صديقاً، وأقل من أن تجعلنا نتعامل معه بوصفه عدوّاً خطيراً. في المقابل، جاد المليح مغربي يعتزّ بمغربيّته، وهذا يفتح باباً معه للتواصل والنقاش... (علماً بأنّه لم نقع في بيان إلغاء الحفلات اللبنانيّة على أي كلام يعبّر فيه الفنان عن استغرابه لما حدث، أو رغبته في توضيح بعض المسائل ورفع بعض الالتباسات، واكتشاف حقيقة هؤلاء الناس الذين يحتجون على زيارته). وأخيراً وتكراراً، فإن هذا الفنّان الموهوب الذي وقف مرتين أمام كاميرا الجزائري مرزاق علواش، يشفع له أن خطابه الفنّي ونتاجه الإبداعي خاليان تماماً من أي انحياز سياسي أو بروباغاندا أيديولوجيّة. قد يأتي يوم نبلغ فيه من النضج ما يجعلنا لا نضع خصومنا وأعداءنا كلّهم في سلّة واحدة.


سفير إسرائيلي!

انتشرت منذ أسابيع رسائل إلكترونيّة عشوائيّة تنسب إلى جاد المليح تهماً كثيرة، أطرفها أنّه سفير إسرائيل لدى الفرنكوفونيّة. والحقيقة أن العبارة الساخرة مأخوذة على عجل من مقالة لاذعة بالفرنسيّة تنتقد الفنان على موقع فلسطيني مرموق (info-palestine.net)، بعد حواره الترويجي لإسرائيل. يسخر كاتب المقالة من المليح الذي بات «سفيراً لإسرائيل لدى الفرنكوفونيّة»