محمد سويد... عن ماضٍ لا شفاء منه«ما هتفتُ لغيرها» عنوان أحدث أفلام المخرج والناقد والمنتج اللبناني. رحلة افتراضيّة عبر أزمنة وأمكنة مختلفة، وجردة حساب ساخرة مع أوهام الأمس وخيباته. وداعاً هانوي، أهلاً دبي؟

بيار أبي صعب
محمّد سويد رجل له ماض: بيروت الغربيّة وأغاني عبد الوهاب والسينما المصريّة والثقافة الشعبيّة. وتجربته مع «فتح» خلال الحرب الأهليّة. وهو يحقّق أفلامه عند تقاطع الذات والموضوع، مازجاً بين السرد والتوثيق. ويعطي الكلمة لشخصيّات من زمن سابق، في سياق احالات ثقافيّة وسياسيّة.
«ما هتفتُ لغيرها»، فيلمه الأخير الذي أعيد عرضه في «ميتروبوليس» بيروت (صوّر في الأصل لمحطّة «العربيّة» التي بثّته على جزءين)، لا يشذّ عن تلك القاعدة. مشروع أركيولوجيّ، يغوص بين أطلال الذاكرة على أوهام السنوات الذهبيّة التي يضعها في مواجهة الراهن المفتّت والمأزوم. كما يضع بيروت عاصمة الأوهام الثوريّة المجهضة في مواجهة دبي مدينة العمران والازدهار الاقتصادي التي يلجأ إليها المناضلون المتعبون... وبينهما تنتصب هانوي، مدينة المرجع الثوري لجيل ومرحلة. تحيل أيضاً على نقاش أثير من وحي أحد خطابات حسن نصر الله (بيروت هانوي/ بيروت هونغ كونغ). ودائماً يعود بنا إلى شارع الحمراء، ليهتدي إلى نفسه، ويربط خيوط الحكاية. ويكتب لنا شعارات عبثيّة على أكشاك الصحف.
محور الفيلم هو حاتم حاتم، تلك الشخصيّة الافتراضيّة التي يعيرها المخرج صورته الشمسيّة بالأبيض والأسود. لقبه أبو حسن هانوي كان يوزّع الصحف على درّاجته وانخرط في القتال مع المقاومة الفلسطينيّة. مثل سويد عاش تلك المرحلة وصار يتيمها. طيفه يلوح من قلب صخب السبعينيات، هو الذي انقطع عن العالم بعد الاجتياح الإسرائيلي ١٩٨٢، ولجأ إلى قريته الجنوبيّة. ترك دفتراً أحمر عليه تواريخ الهزائم، سيحاول ابنه حسن أن يكمله، باحثاً عن سيرة أبيه، وصولاً إلى هانوي التي لم يزرها الأخير. وتعبر وجوه واقعيّة مختلفة تزيد من ازدحام الفيلم الخارج على أي بنية دراميّة: هاوي دراجات الهارلي دايفدسون الذي يحب الحرب والمقاومة... الشاب الجنوبي الذي هاجر الى أميركا ويتعاطف مع خطاب الممانعة... ابن المناضل البعثي العراقي الذي اغتاله أصدقاؤه في البعث السوري، ما زال يحبّ صدّام ويعمل في الإعلانات في دبي... الشابة الكرديّة الإيرانيّة، اللبنانيّة الأم، التي تمارس اليوغا في دبي، وقد أبصرت وجه الإمام الخميني وانبهرت بنورانيّته...المناضل الفتحاوي السابق الذي ذهب إلى الفيتنام حقاً والتقى الجنرال Giap، ويحبّ أبو جهاد... المثقف اليساري العجوز وزوجته النسويّة اللذين داعبتهما الفكرة الثوريّة... المثقّف الشيعي الذي يستعيد مرحلة السبعينيات، ويحاول أن يبحث عن خيوط تربط بين المقاومة اليوم (حزب الله) وسياق النضال الفتحاوي... المستثمر الآسيوي الذي اصطفى دبي مدينته، مثلما ارتبط فيها محمد سويد مهنيّاً، وفيها أيضاً يقيم حسن حاتم («تمثيل» فادي الطفيلي) مخرج الأفلام الذي يمضي في رحلة البحث عن والده أبو حسن هانوي.... الإعلامي جميل ضاهر يغنّي بين اللقطات «أنا والعذاب وهواك». وكلمات المخرج على الشريط الصوتي تربط بين اللقطات والمشاهد.
في فيلم سابق عنوانه «عندما يأتي المسا»، عاد سويد إلى سنواته النضاليّة ليقول مرارته بكثير من الحنين. أما في «ما هتفت لغيرها»، فيبدو أقرب إلى القطيعة النقديّة مع ذلك الماضي. نظرته إلى الأشياء مفعمة بالسخرية: الزعيم هو شيء منه يمارس حركاته القتاليّة على إيقاع الهاتفين باسمه في بيروت... نشيد «لبيك يا علم العروبة» يرافق سرب سائقي الهارلي دايفيدسون... طيف ٧ أيّار (مايو) ٢٠٠8 والدخان المتصاعد من تلفزيون «المستقبل». مشهد تحطيم زجاجات الكحول (أين؟ متى؟ من؟)... وبين حين وآخر تلك اللازمة الغنائيّة: give me hope ya zouzou... (أعطني أملاً يا زوزو). كل هذا اليأس إذاً؟ لا مقاومة ممكنة بعد أبي حسن هانوي ورفاقه؟ لم يبقَ لنا إلا البزنس في دبي، وفي بيروت قريباً حسب نبوءة المستثمر الآسيوي، بعيداً عن الايديولوجيا وأكاذيبها؟ محمّد سويد رجل له ماض، وهو لم يشفَ منه بكل تأكيد...