20 سنة مرّت على توحيد الألمانيّتين، وقناة arte احتفلت بالذكرى على طريقتها عبر سلسة أفلام وثائقية خيّمت عليها إشكالية التعايش والذاكرة التي لن تُشفى بسهولة
صباح أيوب
60 عاماً على تأسيس ألمانيا الفدرالية، و20 عاماً على سقوط جدار برلين: مناسبتان يحتفل بهما العالم وألمانيا هذه السنة. ومَن أفضل من arte لإحياء هذه الذكرى إعلامياً؟ خصصت المحطة الفرنسية ـــــ الألمانية جزءاً كبيراً من برامجها للمناسبة، فعرضت عدداً من الأفلام الوثائقية والصور النادرة والمقابلات الخاصة منذ مطلع الشهر الجاري. وبعدما بثّت القناة 7 حلقات خاصة بالذكرى، وعرضت شهادات وقصص مواطنين واكبوا تلك المرحلة في ألمانيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق، خصّصت أول من أمس سهرة Thema بأكملها للموضوع، واختتمت أمس آخر محطات احتفالاتها بالذكرى التاريخية.
ولعلّ أبرز ما خصصته arte للمناسبة هو ما عرضته في سهرتها الطويلة أول من أمس: فيلم وثائقي طويل تلته مقابلة خاصة مع أفراد عائلة فرّقها الجدار، ووثائقي آخر عن موسيقى الحقبة السابقة وأغانيها في ألمانيا الشرقية والغربية.
من ساحة «كنيسة السيّدة العذراء» المرمّمة حديثاً في درسدن، انطلق الفيلم الوثائقي بعنوان «هل سقط الجدار فعلاً؟» (إخراج جان بيتر). وفي مقدمة الشريط تساؤلات تمحور حولها الموضوع الأساسي: «هل توحّد الألمان حقّاً»، «هل سقطت الفوارق بين العقليتين الشرقية والغربية مع سقوط الجدار؟»، «بمَ نحتفل اليوم فعلياً؟»... الجواب كان واضحاً ومفاجئاً. إذ أظهر الشريط، من خلال شهادات وأمثلة حيّة، أنّ الجدار ما زال قائماً... في النفوس وطرق العيش والتفكير. شرقية / غربية، ألمانيا لا تزال «ألمانيتين» حتى عند الجيل الشاب الصاعد. كيف ذلك بعد 20 سنة من «الاتحاد»؟
مثلان عن فتاتين من جيلين مختلفين قدمهما الشريط. إحداهما عاشت زمن الانفصال، وأخرى من الجيل الشاب الذي نشأ في «ألمانيا المتحدة». الأولى عملت مربيةً في حضانة أطفال في برلين الشرقية، ثم انتقلت إلى المنطقة الغربية بحثاً عن عمل بعدما صُرف خمس المدرّسين من وظائفهم. وعلى رغم مكوثها منذ فترة في برلين الغربية لا تزال تجد صعوبة في الاندماج في المجتمع الغربي. لماذا؟ تجيب المربّية بأنّ «السكان هنا ما زالوا يعتبروننا أقلّ مستوى منهم في الثقافة والعلم والتفكير»، وهم «عنصريّون ولا يريدون أن يتواصلوا معنا بأي شكل». وقبل أن يُظهر الشريط عيّنته الثانية من الجيل الشاب، انتقلت الكاميرا إلى إحدى البلدات في ضواحي ما كان يُعرف بألمانيا الشرقية. البلدة التي كانت مركزاً ثقافياً كبيراً خلال الفترة الشيوعية، باتت شبه فارغة ومهمّشة إعلامياً وحكومياً وإنمائياً. اسم البلدة لم يذكر في الإعلام إلّا... حين زارها الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش (!) حيث تصدّرت البلدة الصحف والشاشات. «هو أمر مؤسف جداً» يعلّق المسؤول عن المركز الثقافي، الذي رفض أن ينادي الرئيس الأميركي بعبارة «فخامة الرئيس» (كما نصّت التعليمات الرسمية الألمانية) خلال استقباله له.
مَثلٌ آخر عن الظلم الذي لحق بـ«أهل الشرقية»، أبرزه الشريط عندما ذكّر بالقانون الذي أصدرته حكومة ألمانيا الاتحادية، ونصّ على تقليص عدد الغرف في شقق مباني المنطقة الشرقية مهما كان حجم العائلة القاطنة بها بذريعة أنّ «مساحة الشقّة تفيض عن حاجة سكانها»!
أما مفاجاة الوثائقي، فتمثّلت في مونيك لامب (24 سنة) التي تمثّل عيّنة بين مليون ونصف مليون شابّ هجروا ألمانيا الشرقية بعد الاتحاد، وتوجّهوا إلى الغربية بحثاً عن فرصة عمل ونمط حياة «قد يكون أفضل». مونيك، تعترف بأن الحياة قاسية في بلدتها حيث التطور بطيء، والسكان باتوا بأغلبهم من المسنّين. وهي وجدت صعوبة في الحصول على وظيفة براتب كاف، ما دفعها إلى الانتقال إلى برلين الغربية، حيث عملت في وظيفة ثابتة وراتب لائق. لكن الشابّة التي لم تعش فترة الانفصال، ولا تتذكّرها إلا قليلاً، لم تستطع أن تتعايش مع نمط حياة الغربيين من أبناء جيلها، وهم بدورهم لم يتقبّلوا اختلافها. هي مثلاً لا تزال تجد صعوبة فائقة في ذكر أنّ والديها «لم يكملا تحصيلهما العلمي لأنهما كانا عاملين في أحد المصانع». «الغربيون لا يستوعبون الاختلاف، وهم يسعون إلى توسيع الهوّة» تقول مونيك. لكن الشابة ورغم كل «المغريات» قررت ترك كل شيء والعودة إلى بلدتها بوظيفة عادية وراتب بسيط «لم أشعر بأنّ ألمانيا توحّدت فعلاً إلّا عندما عدت إلى جذوري في ألمانيا الشرقية!» تختم الشابة الألمانية. نهاية الوثائقي مثل بدايته، مشهد يصوّر مئات الأطنان من الحديد هي بقايا قصر «جمهورية ألمانيا الديموقراطية الاشتراكية» الرئاسي، الذي هُدم بعد الاتحاد، وذوّب وأعيد استخدامه في بناء «برج العرب» في دبي! يبدو أنّ «ألمانيّي الشرقية ما زالوا يحنّون إلى جمهوريتهم الاشتراكية رغم كل المعاناة التي عاشوها في تلك الفترة» يختم الشريط طارحاً إشكالية تعايش وذاكرة مشتركة يبدو أنّها لن «تشفى» بسهولة!