لغة الضاد بطلة روايتها المهاجرة إلى أحضان موليير

باكورتها الأدبيّة «يوم الدين» صارت في متناول القارئ الفرنسي، بعد سبعة أعوام على صدورها في بيروت. الرواية مكتوبة بلغة معجميّة شاقة، تحاكي بأسلوبها أمهات الكتب التراثيّة، عن شيخ وامرأة يجمع بينها شعر المتنبي... وعلاقة جارفة تودي بإمام المسجد إلى السجن

حسين بن حمزة
حين نشرت رشا الأمير «يوم الدين» («دار الجديد» ـــــ 2002)، بدت الرواية أشبه بنبتٍ شيطاني. فهي، أولاً، رواية مكتوبة بلغة وعرة وشاقة، بخلاف مثيلاتها من الروايات التي تُقرأ بيُسرٍ وسهولة. وهي، ثانياً، من تأليف ناشرة مكرّسة، لمعت في الصحافة والنقد قبل سنوات، لكن لم يسبق أن عرفت عنها ميولٌ علنية أو محاولات مشهودة لكتابة الرواية. يضاف إلى ذلك، أن الأمير لم تنشر شيئاً بعد هذه الرواية، ما يجعل صفة «الشيطانية» لصيقة بها إلى حين صدور رواية ثانية لا نعلم، إن صدرت، إذا كانت ستشبه الأولى أو لا.
الرواية مسرودة على لسان شيخٍ يروي لحبيبته تفاصيل علاقتهما التي بدأت بتعارفٍ واتفاقٍ على إنجاز مشروع يتعلق بفهرسة شعر المتنبي. المشروع يتحول ذريعة للقاءات تعقد في منزل الحبيبة. يتعرض الشيخ لمضايقات في إدارة مسجده من جماعات أصولية. يقدم برنامجاً دينياً لمصلحة قناة تلفزيونية، ثم نفهم أنه يسجن لفترة، وأنه يروي الأحداث من سجنه. تصلنا إيحاءات أن ثمة حرباً قائمة. الحبيبة تسافر إلى الخارج، والشيخ يلتحق بها في نهاية الرواية.
كلّ روايةٍ قابلة للقراءة بالطبع، لكن لا بدَّ أن قرَّاء رواية رشا الأمير يحتاجون إلى صبرٍ غير عادي كي ينهوها. لا نتحدث هنا عن الجمهور العريض فقط، فـ«قرّاء النخبة» بدورهم لا ينجون من بذل الصبر نفسه لإكمال الرواية التي تدعونا فصاحتها وبلاغتها الزائدتان إلى الانكباب عليها ممتنعين عن الشرود، أو حتى عن أخذ ما نقرأه على محمل التسلية والمتعة العادية. اللغة هنا ماضية في غيِّها المعجمي وبلاغتها الباذخة. سيّان إن كان هذا البذخ على قياس ما يحدث أو فضفاضاً عليه. ولأن الأحداث والشخصيات قليلة، فإن حضور اللغة يتضاعف أكثر. إنها البطل غير المعلن، والوحيد تقريباً، للرواية. وإذا فكّر القارئ بنزع هذه اللغة عن جسم الرواية القائم على علاقة حب تجمع شيخاً وإمام مسجد بامرأة، فالأرجح أن تفقد الرواية جزءاً أساسياً من روحها وحضورها.
ولعل ترجمة الرواية إلى الفرنسية على يد يوسف الصديق وصدورها عن «سندباد ـــــ آكت سود»، أخيراً، كفيلان بجعل هذا التفكُّر ممكناً، إذ تخفَّفت الرواية، في لغة موليير، من بذخها وجزالتها العربية. القصد هنا أن منح الشيخ دور الراوي شجَّع المؤلفة على أن تسرد الرواية بلغة يتقنها هو. لكنّ هذا حصل على حساب القارئ غير المبالي، وهذا حقه، بطموح المؤلفة إلى محاكاة اللغة العربية كما تجلّت في أمهات الكتب التراثية. ثمة هوسٌ ومثابرة على تمتين كل عبارة وكل مفردة. اللغة، بهذا المعنى، تشتغل ضد الرواية أو ضد انسيابها وتلقائيتها. كما أن نفي الاسم عن الشيخ وعن امرأته، وعن سائر الشخصيات الأخرى، والامتناع عن تسمية الأماكن أيضاً... كل ذلك يجعل الرواية طفيفة الصلة بالحياة العادية. نقرأ ونحس أننا مطرودون من واقعنا اليومي، وأننا مرغمون على تلقّي درسٍ في البلاغة العربية المهجورة. كأن الرواية تدور في اللغة. أما غياب الأسماء والإشارات الزمانيّة والمكانيّة، فيحوِّلها نصاً نقياً أو قطعة أدبية خالصة.
دعكَ أيها القارئ من الجِدّة الموجودة في علاقة جسدية وعاطفية تجمع بين رجل دينٍ وامرأة. ودعكَ من ذريعة عملهما المشترك على شعر المتنبي. ودعك مما يتعرض له الشيخ من مضايقات الأصوليين، ودخوله السجن لفترة قصيرة... فالرواية، قبل كل هذا وبعده، مبارزة لغوية مفتوحة بين الراوي ومصادره ومظانه الفقهية والتراثية. وهذا ما يدفعه إلى مجاراة هذه المصادر والمظان. المشكلة تكمن في إقناع القارئ بأن رجل الدين هو رجل دينٍ في كل تفاصيل حياته، وأنه يستخدم لغةً بليغة و«مقعَّرة» في وصف كل ما يحدث له، إلى حد أنه يُجري اللغة نفسها على ألسنة شخصيات أخرى في الرواية.
كذلك فإن الإطناب في تعتيق اللغة وتفصيحها، قد يسبّب أحياناً خلق إحساس معاكس لدى القارئ، مثلما هي الحال حين يصف الراوي سجنه بـ«الخِباء»، وحراس السجن بـ«أرصاد أيديهم على قلوبهم وعلى أزندة بنادقهم»، ومسألة اعتقاله بـ«حفظه والسهر عليه» من قبل السلطة. الأمر نفسه يحدث في وصف الوصال الجسدي بين الشيخ وحبيبته، إذْ نقرأ جنساً مبالغاً في فصاحته: «فحللت أزرار قميصك وحللت أزرار قميصي، وجلتِ بالكفّ والشفتين في أرجاء صدري ومثلكِ فعلتُ، ثم، لا أذكر كيف، بلغ عُريانا المنتهى، ثم كان بيننا هرجٌ ومرجٌ انتهى بأن أسقط من يدي وارتميتُ فوقك». وفي صفحة أخرى نقرأ: «تلتصقين بي فأتأوَّل التصاقك بمثابة استخلافٍ لي على توجيه ما نحن فيه. أُعمِلُ لساني والشفتين في نهديك، تُعمِلين لسانك والشفتين في رقبتي (...) أسحب ذراعي اليمنى وأوجِّهها شطر حيائكِ أمرِّغ أصابعي في رطوبته... ».
القصد، في النهاية، أنّ قارئ «يوم الدين» مدعوّ إلى وضع ما عرفه واعتاده من روايات جانباً، وإلى مغادرة موقتة لعالمه الواقعي والأرضي، والاستغراق الكلي في عالمٍ مغاير لعوالم الروايات التي سبق له أن قرأها. إنها رحلة في سردٍ مجلوبٍ من عصورٍ قديمة. سرد طامحٍ إلى إلباس بلاغة مهجورة لرواية حديثة. لعل رواية رشا الأمير امتحان للقارئ العادي. لماذا علينا أن نقرأ دوماً رواياتٍ مكتوبة بلغة سهلة وطيِّعة؟


دعت «دار المدى للثقافة والفنون»، في بيروت، إلى لقاء مع الكاتبة والناشرة رشا الأمير لمناسبة صدور روايتها «يوم الدين» بالفرنسيّة عن «سندباد ـــــ أكت سود» (ترجمة يوسف الصدّيق). ينطلق اللقاء عند السادسة من مساء اليوم في مقرّ «المدى» (شارع ليون/ الحمرا). للاستعلام: 01,752616