تحيّة استثنائيّة لآلان رينيه والجائزة الكبرى لجاك أودياركان ــ عثمان تزغارت
بعدما نال الجائزة الكبرى عام 2001 عن شريطه «معلّمة البيانو»، ها هو النمساوي مايكل هانيكي ينتزع السعفة الذهبيّة في الدورة 62 من «مهرجان كان» الذي اختُتم أمس. «الشريطة البيضاء» يعود إلى نشأة النازيّة، وإلى تأثيرها في النفوس والذهنيات، من خلال تصوير وقائع الحياة في قرية صغيرة في الريف النمساوي خلال الثلاثينيات. وكالعادة في أفلامه، يبدع صاحب «اختفاء» في حفر الأخاديد النفسية لشخصيات رمادية ومعذبة تدور في فلك ملتبس يتداخل فيه الخير والشر، والبطولة بالجبن. وقد استقبل خيار لجنة التحكيم بالترحيب، ذلك أنّ هانيكي قدّم في هذا الفيلم المصوّر بالأبيض والأسود، عمله الأكثر اكتمالاً على صعيد الرؤية الإخراجية، معيداً إلى الأذهان فيلماً ألمانياً من كلاسيكيات السينما التي تناولت الموضوع ذاته، هو «الأقزام أيضاً بدأوا صغاراً» لفيرنر هيرتزوغ (1972ورغم غنى التجارب التي دخلت المسابقة الرسمية هذه السنة، إلا أنّ توجّهين أساسيّين غلبا عليها. تمثّل الأول في موجة الأفلام ذات الطابع السياسي الذي تنوعت بين مساءلة التاريخ ورصد انشغالات الراهن. بينما اتسم الثاني بأفلام حميمية ذات منحى نفسي.
الأفلام ذات النبرة السياسية، انصبّ بعضها في رصد جوانب من تاريخ الحرب العالمية، من منظور مقاربات مختلفة جذرية. وهي: «سفلة سيّئو الصيت» لكوينتن تارانتينو (جائزة أفضل ممثّل لكريستوف وولتز)، و«الشريط الأبيض» لهانيكي، و«نصر» لماركو بيلّوكيو. بينما اتسمت أفلام أخرى بنبرة يسارية تناولت تيمات اجتماعية متقاربة، عن شخصيات مسحوقة تناضل لتحقيق ذاتها في محيط بالغ العنف: مثل شريط «نبي» للفرنسي جاك أوديار (الجائزة الكبرى)، و«حوض الأسماك» للبريطانيّة أندريا أرنولد (جائزة لجنة التحكيم مناصفةً مع فيلم «عطش» للكوري الجنوبي بارك شان ووك). بينما احتلّ فيلم سياسي آخر مكانةً على حدة هو «الزمن الباقي» لإيليا سليمان الذي استعاد وقائع 60 سنة من حياة الشعب الفلسطيني منذ النكبة، عبر بورتريه عائلي مستوحى من السيرة الأوتوبيوغرافية لثلاثة أجيال من آل سليمان (جدته ووالده وهو). واللافت أن السينمائي الفلسطيني أقصي تماماً من قائمة الجوائز، أسوة بسينمائيين كبار مثل الإسباني بيدرو ألمودوفار والنيوزيلانديّة جين كامبيون.
أمّا في «سفلة سيئو الصيت»، فاختار تارانتينو الأسلوب الملحمي لتقديم بورتريه جماعي عن حفنة مجرمين تحوّلوا إلى شخصيات بطولية بعدما زُجّ بهم في أتون الحرب العالمية لمقاومة النازية. من جهته، سلك مايكل هانيكي لمقاربة الموضوع ذاته منحى نفسيّاً في «الشريطة البيضاء». والمنحى النفسي ذاته سلكه الإيطالي ماركو بيلّوكيو، حيث واصل في «نصر» مساءلة التاريخ الإيطالي المعاصر من خلال بورتريه نفسي لموسوليني. لكنّ العمل الذي أعاد بيلّوكيو إلى «كان» بعد غياب ثلث قرن، لم يكن في مستوى التوقعات.
من جهتها، قدّمت أندريا أرنولد في «حوض الأسماك» عملاً آسراً اتّسم برؤية إخراجية محبكة وسلّط الضوء على أزمة الهوية التي تعصف بوجدان مراهقة تحاول الانعتاق من ضغوط الوسط العائلي والاجتماعي المحيط بها. الفيلم اكتسب تميزه من لغته البصرية المختزلة ورؤيته الإخراجية المينيمالية.
وضمن الأفلام الحميمية، نجد أعمالاً بارزة، كانت لها حصة الأسد من حيث الحفاوة النقدية، وهي «نبي» لجاك أوديار (راجع بروفايل الممثل طاهر رحيم في الصفحة المقابلة)، و«العناقات المحطّمة» لبيدرو ألمودوفار، و«النجمة الساطعة» لجين كامبيون و«الأعشاب البريّة» لآلان رينيه (نال جائزة «كان» الاستثنائية التي استُحدثت خصيصاً هذا العام)، و«المسيح الدجّال» للارس فون تراير الذي صدم كثيرين بعنفه (جائزة أفضل ممثلة لشارلوت غينسبور).
وعلى رغم أنّ بيدرو ألمودوفار خرج من المهرجان بخفّي حنين، إلا أنّه أبهر الجميع في «العناقات المحطّمة» بحبكته الأسلوبية المتقنة التي حققت نوعاً من التناص، غير مسبوق في السينما، مع بعض أفلامه السابقة. وكان لافتاً أن الفيلم يستعيد في قالب تراجيدي تيمة تناولها وودي ألن في «نهاية هوليودية»: القلق الوجودي الذي يسكن كل مبدع.
«كيناتاي» للفيليبيني بريانتي مندوزا (جائزة أفضل إخراج)، اتّسم بنبرة سوداويّة في تناوله العنف والفساد في صفوف الشرطة الفيليبينية. أمّا الصيني لو ـــــ يي الذي أطلقه المهرجان عبر «الفراشة الأرجوانية» (2003) ثم «شباب صيني»، فنال شريطه «حمى الربيع» جائزة السيناريو. يتناول الشريط قصّة حبّ مثلية، في سابقة هي الأولى على الشاشة في الصين. اللغة البصرية المتقنة التي اتسم بها وموضوعه الحساس، والروح المتمردة التي اشتهر بها مخرجه، دفعت النقاد منذ الأيام الأولى للمهرجان لترجيح حصوله على إحدى الجوائز. وأخيراً، كان نصيب جائزة «الكاميرا الذهبيّة» (تُمنح عن أوّل عمل روائي طويل) من نصيب الأوسترالي وورفيك ثورنتون الذي يعيد الاعتبار في «شمشون ودليلة» إلى سكّان بلاده الأصليّين... أي «الأبورجيان».