ندوة مغربيّة تعيد الاعتبار إلى الأدب الجغرافي

ندوة «الرحالة العرب والمسلمين» التي رعتها وزارة الثقافة المغربيّة، بمشاركة مجموعة من الأدباء والباحثين، مثّلت حدثاً معرفياً أساسياً، وخطوة إضافيّة في اتجاه إحياء هذا الجانب من التراث العربي، وجمع كل ما يتعلّق بالرحلة العربية التي اعتبرها نوري الجرّاح «نصّاً للقلق»

الرباط ـــ نجوان درويش
«إنّما هذه الأسفار كلّها قناطر وجسور نعبر عليها إلى ذواتنا وأنفسنا». لعل هذه العبارة لمحيي الدين بن عربي تكثّف فكرة «الرحلة العربية في ألف عام»، عنوان ندوة «الرحالة العرب والمسلمين: اكتشاف الذات والآخر» التي اختتمت أخيراً في الرباط بمشاركة 50 كاتباً وباحثاً في مجال «الأدب الجغرافي» أو أدب الرحلة. لا شيء يبدو كاشفاً للذات العربية، في علاقتها مع الآخر، مع نفسها، كما يفعل نص الرحلة العربية. هذا النص المُغْفل الذي أعاد مشروع «ارتياد الآفاق» («المركز العربي للأدب الجغرافي» و«دار السويدي») اقتراحه عبر إصدار 150 عنواناً نوعياً في الرحلة العربية وجملة برامج أخرى يُشتغل عليها منذ سنوات.
الندوة السنوية التي عقدها «ارتياد الآفاق» شاركت في تنظيمها هذا العام وزارة الثقافة المغربية و«مجلس الجالية المغربية في الخارج»، وأفضت إلى إعلان وزارة الثقافة المغربية إقامة متحف ومركز علمي لابن بطوطة في مسقط رأسه في طنجة، واستمرار التعاون مع «المركز العربي للأدب الجغرافي» (يمنح جوائزه السنوية باسم ابن بطوطة) بهدف نشر تراث الرحلة العربية.
تبدو «ندوة الرحالة العرب والمسلمين» أكثر من مجرد ندوة. فيما يفضّل بعضهم إطلاق تسمية «مؤتمر» على فعاليات متواضعة، تبدو «الندوة» ـــــ باسمها المقتضب ـــــ حدثاً معرفياً أساسياً في دفع ثقافة الرحلة العربية وسبر أعماقها وجمع ما شرد منها وضاع... فضلاً عن وعي مشروع «ارتياد الآفاق» للواقعة الاستعمارية ومواجهتها في حقل «الأدب الجغرافي». بحثت الندوة أربعة محاور، وصدرت أبحاث هذه المحاور ودراساتها في مجلدين. المجلد الأول: «أوروبا في مرايا الرحالين العرب ـــــ المعرفة، الحداثة، الآخر». والمجلّد الثاني: «مشرق، مغرب، عرب ومسلمون ـــــ ديار الإسلام من الأندلس إلى استانبول». كلاهما من تحرير وتقديم الشاعر نوري الجراح المشرف على مشروع «ارتياد الآفاق» الذي يدخل في نهاية 2009 عقده الثاني، مشروعاً عربياً مستقلاً يرعاه الشاعر الإماراتي محمد السويدي.
في افتتاح الندوة، وُزّعت جوائز «ابن بطوطة للأدب الجغرافي»، وكرّمت «الندوة» اثنين من محققي أدب الرحلة: الباحث والدبلوماسي المغربي عبد الهادي التازي، والشاعر السوري علي كنعان. وكانت درع التكريم مجسماً لرأس ابن بطوطة من الفنان السوري عاصم الباشا.
إضافة إلى رصد مجموعة من نصوص الرحلات العربية، إلى جغرافيات مختلفة في «الشرق» و«الغرب»، قدمت الندوة مواضيع على قدر من التباين. في محور «العرب وأوروبا» نجد بحوثاً مثل «الأيقونة وإنتاج الدلالة من خلال نصوص رحلية» للطائع الحداوي، و«تطور الفكر الجغرافي عند العرب والمسلمين» من خلال «علم الخرائط» كما في ورقة عبد الرحمن مزوري، و«برنارد لويس واكتشاف الإسلام لأوروبا: بعض مؤشرات خطاب أبلسة الآخر» لخلدون الشمعة. أما في المحور الثاني «مشرق/ مغرب ـــــ عرب ومسلمون»، فتناول في شقه الأول «رحلات الحج» وفي شقه الثاني مجموعة الرحلات العربية، الأندلسية والمغربية، لإسطنبول. فيما تناول المحور الثالث «خطابات الرحلة العربية» عبر مجموعة «أفكار وقضايا» تتناول موضوعة الرحلة و«شهادات» في الرحلة المعاصرة.
من المداخلات اللافتة التي قُدّمت، ورقة زكريا محمد ـــــ الشاعر والباحث المشغول بالميثولوجيا العربية قبل الإسلام ـــــ بعنوان «رحلة الشتاء والصيف: أمّ الرحلات العربية» التي «تلقي ظلاً قوياً من الشك على التفسير الشائع للسورة القرآنية، أو أن تنفي صحته من الأساس، وأن تثبت، أو على الأقل أن تفتح احتمال، أن هذه الرحلة كانت رحلة دينية رمزية، لا علاقة لها بالتجارة». ويصل زكريا إلى خلاصة مفادها أنّ «سورة قريش لا تتحدث عن رحلتين تجاريتين إلى الشام واليمن، بل عن رحلة في مكة، وداخل حرمها، رحلة رمزية بين صيف الكون وشتائه، ممثّلين بالصفا والمروة. ولأنها رحلة بين صيف الكون وشتائه، فقد سمّيت رحلة الشتاء والصيف. ثم لأنها ألّفت بين مظهري الكون في مكان واحد، أي جمعت بينهما، فقد سمّيت (رحلة الإيلاف). وهي رحلة مغرقة في قدمها، إذ وجدت منذ وجد المعبد المكي. وقد حافظ الإسلام عليها، بعدما عدّل في معناها؛ كانت تمثيلاً لرحلة الإله بين مقرّيه الشتوي والصيفي، فصارت رحلة المؤمن بين مظهري الكون، بين صيفه وشتائه. وهذه الرحلة في الواقع هي أم الرحلات العربية جميعاً. فهي دفعت الملايين، بل عشرات الملايين من البشر للحج إلى مكة من أجل السعي بين الصفا والمروة، أي السعي في مسافة لا تزيد على 470 متراً. لكنّ هذه الرحلة الرمزية القصيرة كانت سبباً في قيام المئات من الحجيج بتسجيل وقائع حجّهم إلى مكة من أجل الفوز بهذه الرحلة. ومن دون هذه الرحلة ما كنا لنقرأ ما كتبوا. من دونها ما كنا لنقرأ ابن جبير أو ابن بطوطة. ولعل للمرء أن يقول إنّ كل رحلة عربية، حتى لو لم تكن إلى مكة، كانت تقليداً لرحلة مكة واستئناساً بها». ويختم زكريا محمد بحثه جازماً: «رحلة الشتاء والصيف إذن أم الرحلات العربية كلّها، بل هي خالقتها في حقيقة الأمر».