هشام بن الشاوي «ما من أحد متأكد أنّه يركب القطار الذي يلائمه، أقصد القطار الذي يشتهيه...». هكذا يستهلّ الروائي والناقد المغربي محمد برادة روايته الجديدة «حيوات متجاورة» (دار الفنك/ دار الآداب). قرّاء برادة يدركون جيداً أنه يلجأ إلى المناورة في بدايات رواياته، فيجعل لنصّه أكثر من مدخل سردي. يفتتح حيواته المتجاورة، بفصل «على عتبة النص»، حيث يؤكّد حيرته من أين يبدأ الحكي. هذه العتبة أقرب إلى استهلال ميتاروائي، يقرّ فيه الكاتب بأنّه يتخيّل نفسه في موقع السارد ـــــ المسرود له الذي عاش تفاصيل النص، عاشر وشاهد ثم اختزن في ذاكرته، وتخيّل محكيات، ثمّ سرّب كلّ ذلك إلى الراوي. هذا الأخير استولى على المحكيات وتعلَّق بها وأخذ يسردها في حضور السارد، فلم يعد قادراً على الاعتراض على شكل الحكاية، مؤكداً أنه «سيكتفي بهذه الصيغة» التي ستظهر عليها الرواية.
يلي هذه التوطئة «توضيح من الراوي»، فلا نجد أنفسنا أمام بدايات تشعّب خيوط السرد كما في «لعبة النسيان»، بل نفاجأ برواة/ ساردين، يعلن أحدهما، الراوي، أنّه اطّلع على المشروع الروائي للأستاذ سميح، السارد ـــــ المسرود له، مشيراً إلى وجود معركة سرد. يضيف الراوي أنّه غير قادر على «أن يستظلّ الحياد» وهو مجرد راوٍ وسيط، يغرق في تساؤلات تثيرها الذاكرة والزمن وعلاقتهما بالأحداث، لكنّه يعترف بأنّه سيحاول لجم تساؤلاته.
روعة «الحيوات المتجاورة» تكمن في بنائها الفني المتميّز بتعدد الأصوات والتناوب السردي ولايقينية المحكي. يختار الراوي ثلاث مسارات سردية، وهي: «تقول نعيمة»، «ولد هنية يتكلم»، «الوارثي يحاور». هذه الشخوص تتحدث إلى الأستاذ سميح عبر تسجيلات صوتية، وكل مسار سردي يروى من ثلاث زوايا/ محطات: يبدأ بفصل «قال الرواي» حيث يحاول الراوي الذي استولى على المحكيات إبداء رأيه أو التعليق عليها، يليه فصل «من مذكرات السارد»، ثمّ تطلق الشخصية العنان للحديث عن نفسها وحياتها.
بعد هذه المفاصل السردية، تصل السارد «رسالة من نعيمة» تكتب إليه وهي في السجن. إنه الخوف من المجهول، من الشيخوخة وتقلّبات الدهر. تستغلّ الرسالة حدث محاكمة نعيمة لفضح الفساد الإداري المتمثّل في الرشوة وتواطؤ بعض المسؤولين مع أباطرة المخدرات. في السجن، ورغم أنّها بلغت عمر الكهولة، تدرك نعيمة أنّ «الحياة لا يحسب عمرها بالأيام». في فصل آخر يكتبه الراوي، يوظف برادة السيناريو بجماليات لغته البصرية وسيلة للتمرد على السارد ـــــ المسرود له، وترك بصمة الراوي الخاصّة على الرواية. هكذا، ينجح برادة في صهر أجناس فنية عدة في بوتقة روايته كالسيناريو والحوار الصحافي والمذكرات والرسائل والخطاب الإذاعي والأغنية والشعر والشهادات. في الفصل الأخير الذي حمل عنوان «من دفتر السارد المسرود له»، يبتكر برادة نهاية مغايرة لروايته، فيطغى التأمل والنوستالجيا في شكل أقرب إلى ورشة كتابة. هنا، يشير الكاتب إلى عجزه عن التمييز بين «الحقيقي» و«المتخيل»، بين ما حفظته الذاكرة وما نزل من سماوات المخيلة، وبين روائية النص أو فنيته. الحكايات في الواقع يمسح بعضها البعض الآخر، وهذا ما يميز الرواية عن «الحكي الواقعي»... إنّه ذلك التواطؤ بين الحكاية وكاتبها، ثمّ بينه وبين القارئ.