محمود عبد الغنييبحث عبد الفتاح كيليطو في كل نص وكل منمنمة، عن الحيّة ذات اللسان المشطور، رمز الحقيقة ذات الوجهين أو حمّالة الأوجه الكثيرة اللانهائية. كلّ إشارة بسيطة مبثوثة هنا وهناك، هي لكيليطو خيط ثقافي يمكن اتباعه لإثبات فكرة أو دحضها. يعود إلى هذا المنهج في كتابه الأخير «من شرفة ابن رشد» (دار توبقال)، ليؤكد نجاعة هذه الطريقة الخاصة في قراءة نصوص تراثنا. لعلّ ذلك ما يدفعه دائماً إلى استعارة رمزية الحية، الحيوان ذي اللسان المشطور، في إشارة إلى الخطاب المزدوج. نصادف في «كليلة ودمنة» حيوانات لا تكف عن المناظرة والموازنة بين الحجة ونقيضها. في كتاب «المحاضرات» لليوسي، يتوقف كيليطو عند صفحة خصّها المؤلف لابن أبي محلي الذي قتل عام 1613. هذه الشخصية العجيبة ادّعت المهدوية، وتوّجت انتصاراتها العديدة على السلطان السعدي زيدان، بدخولها مراكش ظافرةً. يقول كيليطو إنّ لهجة اليوسي في تلك الصفحة، تميل إلى انتقاد بن أبي محلي. لكنّ الخاتمة تدخل نغمة غير متوقعة. لقد ذهب وفد من الفقراء إليه حين دخل مراكش ليزوروه مهنئين بما حاز من الملك. إلّا أنّ رجلاً منهم ظلَّ ساكتاً، فقال له بن أبي محلي: «ما شأنك لا تتكلم؟» فقال له الرجل الساكت بعدما طلب الأمان: «إنّ الكرة التي يُلعب بها، يتبعها المئتان وأكثر من خلفها، وينكسر الناس وينجرحون وقد يموتون، ويكثر الصياح والهول، فإذا فتشت، لم تجد بداخلها إلا الشراويط». فبكى الملك قائلاً: «رمنا أن نحيي الدين فأتلفناه». يستخلص كيليطو أنّ بن أبي محلي يتلقى خطابين مختلفين: خطاب مديح تنطق به الجماعة ــ كما هي عادتها ــ وخطاب تأنيب ينطق به رجل واحد كان ساكتاً وطلب منه الكلام. يخصص كيليطو في كتابه دراستين لكل موضوع، بهدف سبر غور ازدواجية الخطاب. كيف نقرأ «كليلة ودمنة؟» و«بارت والرواية» و«لغة القارئ»، وكلّها مقالات تتخلَّلها تأويلات لقضية الترجمة باعتبارها فعل حب تارة، وفعل غزو تارة أخرى. لا أدلّ على ذلك إلا رفض شعوب عديدة ترجمة نصوصها المقدسة، معتبرة عملية العبور من لغة إلى لغة أخرى بمثابة اعتداء. ألم يقل نيتشه «الترجمة غزو»؟
الحقيقة المزدوجة، أو الحية ذات اللسان المشطور، قضيتان طرحتا في المنمنمات الـ 99 التي أنجزها الواسطي في القرن الثالث عشر لزخرفة مقامات الحريري الخمسين. لكنّ منمنمة واحدة أثارت انتباه كيليطو، تمثّل جزيرة. يقف أمامها كيليطو ويستخلص إلى أن الواسطي رسم ما لم يصفه الحريري. إذ إنه استسلم لخياله، وبذلك يكون قد أثرى المقامة وأضاف إليها معنىً آخر. لماذا رسم ما ليس ممثلاً في النص؟ يرى المؤرخ الألماني ريتشارد إيتنغوسن في كتابه «الرسم العربي» (1979) أنّ الواسطي استسلم لخياله الذي غذّته حكاية البحارة.
عبّر كيليطو عن حيرته المضاعفة أمام منمنمة أخرى، لا تتطابق مع المقامة التاسعة والثلاثين المفترض أن تمثلها. يظهر فيها أبو زيد السروجي والحارث بن همام أمام قصر الوالي، وإلى اليسار ثلاثة غلمان محزونون. ما لفت انتباه المطل «من شرفة ابن رشد»، هو الباب والشبابيك المغلقة بإحكام، فيما نص الحريري يتحدث فحسب عن باب من حديد. رسم الواسطي ثلاثة شبابيك غير مذكورة في المقامة. كأنّ الواسطي بتأكيده على الإغلاق وتكثيره، يلحّ على الانحباس، كما يفسّر كيليطو.