الحرب طبعت بيروت عمرانياً وجغرافياً واجتماعياًنوال العلي
كُتِب لهذه المدينة النجاة. مرّ ذلك اليوم من 13 نيسان (أبريل) 1975 بسلام. كانت الشمس الواحدة تداعب المباني من شرق بيروت إلى غربها، والناس يتحرّقون شوقاً لنهارات العطل. لم يحدث شيءٌ من الحرب أو قبيلها، تداولت الأعمار الحكايات والأيام. أمّا بيروت فأحبّها الغرباء كأهلها وربما أكثر، وكل ذلك الرصاص كان مجرد كابوس أفاقت منه المدينة التي شغفت عشاقها حبّاً حتى كادوا يقتلونها أو فعلوا. الكل يحبّ بيروت، وبيروت؟ بتحبّ مين؟
هل يمكن افتراض مصير مختلف للمدينة؟ ماذا لو لم تحدث الحرب؟ ماذا كان سيكتب الشعراء والروائيون؟ والفنّانون ماذا كانوا يملكون لولاها؟ إذا سألتهم، هل تتخيّلون عمر المدينة ناقصاً 15 سنة حرب أهلية؟ يستهجنون: بيروت؟ من دون الحرب؟ كيف؟ كأنّ هناك مَن يقول للمخرج السينمائي غسان سلهب «تخيّل لو ما في شمس، مستحيل ما نمرق بالحرب!». لكنّه يقرر أن يلعب اللعبة «لو لم يكن هناك حرب، لما عملت سينما». هذه الحرب الرافضة لأي آخر هي التي فتّحت عيون سلهب على «الآخر القريب والآخر البعيد أيضاً». يضحك صاحب «أشباح بيروت» من الفكرة «خَرْجْ تنعمل فيلم، كأنّنا نقترح على الناس أن يعيشوا حياةً أخرى».
الشاعر والصحافي يوسف بزّي يفترض أنّ الأدب اللبناني لولا الحرب لكان «سيستمر ضمن السياق التاريخي للاقتراحين الكبيرين: اقتراح عصر النهضة واقتراح حركة الحداثة»، ولكان هو نفسه «كاتباً جميلاً يلبّي متطلبات المجتمع البرجوازي». أمّا بيروت بلا حرب، فهي كما يراها بزّي «مدينة كوزموبوليتية وعاصمةً حقيقيةً للتجارب الطليعية والعيش الرغيد، تشكّل ذلك الجسر المستحيل بين الشرق والغرب، ولربما كانت ملأى بناطحات سحاب كدبيّ مع ادّعاءات كثيرةأمّا زينة معاصري، الفنانة والباحثة التي تمحور مشروعها «ملامح النزاع» حول الملصقات السياسية للحرب الأهلية (معرض ملصقات، كتاب صدر بالإنكليزيّة وقريباً بالعربيّة)، فيمكنها أن تتخيّل المدينة بلا حرب، لكن ليس بلا سياسة. السياسة هي روح عمل معاصري، مثلما هي ـــــ بتناقضاتها ـــــ عصب لبنان، «معظم عملي يتعلّق بوجودي في بيروت وبتعلّقي بها، ويصب في محور السياسة والمدينة. وأعتقد أنها تعني بناء المجتمع». ولمّا كانت معاصري أستاذة التصميم الغرافيكي في الجامعة الأميركية في بيروت، فإنّ قراءتها للفنّ الشاب والجديد الذي يهتم بالحرب، تُبين أنّ علاقة هذه الفئة بالحرب كانت قائمة على الجهل. حتى أحداث 2005 و 2006، «انتبه هؤلاء إلى أنّ الصفحة لم تُطوَ بعد، وأننا عشنا في وهم نهاية الحرب».
الحرب لم تنته. هذا هو أيضاً رأي ماهر أبي سمرا مخرج فيلم «دوّار شاتيلا». أما بيروت من دون حرب، فمدينة لا يعرفها: «بيروت مكوّنة من الحرب. ومن دون ذلك، سأكون شخصاً آخر». هذه المدينة تشبه نفسها وتشبه المنطق الذي راكمته على مدى سنوات، من خطوط التماس وشكل العمارة وحركة السير وتنظيم الشوارع. «راكمت بيروت آثار الحرب الضخمة والمدمّرة. وبهذا المعنى، نحن والمدينة متشابهون». لكن كيف نتخيّل بيروت هكذا إذا كانت «مساحة معدّة دائماً لمعاودة الحرب مرة أخرى. وفي هذا التهديد الدائم، كيف يمكن تخيّل الحرب غائبة، حتى وهي ليست حاضرة».
المخرج والمصوّر أكرم الزعتري لا يمكنه أن يتخيّل المدينة بلا حرب أهليةّ طبعتها عمرانياً وجغرافياً واجتماعياً. لكن هل بالضرورة أن ينهمك الفنانون اللبنانيون في إعادة إنتاج الحرب فنياً؟ يجيب الزعتري: «العلاقة بين الفنان والحرب ليست واجباً، وأصلاً هي مسألة شغف فردي تماماً، وأنا لم أتطرق فعلياً إلى الحرب الأهلية والطوائف، فالموضوع متشعب. لكني اشتغلتُ على الحروب الإسرائيلية على لبنان التي تداخلت مع الحروب الداخلية». حتى الفنّ الذي يبدو بعيداً عن مظاهر الحرب ـــــ مثل تاريخ الصورة أو الجنس أو الإعلام ـــــ ليس ببعيد في عمقه عن مخلّفات الحرب. حتى تاريخ العائلة الشخصي وموضوع الحداثة في لبنان، وحتى عندما نتكلم عن وسط المدينة، فهل يمكننا أن نغفل الحرب؟ يتساءل الزعتري، مؤكداً أنّ «للحرب إيجابيات أيضاً ليس في صدد أن يعدّها».
«بيروت من دون حرب، مجرد مشروع فني» تقول الفنانة لميا جريج: «عندي حنين لتلك السنوات. ليس أن الحرب حلوة، لكنّي لا أتصور الحياة بشكل آخر» بل بالتجربة ككل وتقاطعها مع الحياة، وبأمور كانت لتحدث بوجود الحرب ومن دونها. وربما لو لم تحدث الحرب، لكانت بيروت الآن مكاناً «أقلّ وحشة».
عصام بو خالد الذي تناول في «مآآآرش» (2004) إشكالية الحرب، يقول «لو لم تحدث الحرب، لكانت ثيماتي المسرحيّة تغيّرت. باستبعاد الحرب من حياتي، كأنّني أعيش حياة أحد آخر، إذ تآلفتُ وتعلّمتُ والحرب من حولي».
وأخيراً التشكيلي أيمن بعلبكي، عناوين لوحات تستوقف الماضي: «أحرقه» و«بنيت منزلي»... الشباب تشغلهم ذاكرة الحرب من دون أن يملكوا ذكريات مباشرة معها. إنّها المحاكمة لذاكرة الآخرين الذين عاشوا تلك السنوات. أما بيروت بلا حرب فمدينة مستحيلة، حيث الحرب «متوثبّة وحاضرة ونحن ما زلنا في قلب المعمعة». يرسم بعلبكي عن الحرب ليس «غوى فيها، لكننا لم نعمل ما فيه الكفاية كأصحاب حساسيّة خاصة تجاه ما يحدث في العالم».