بيار أبي صعبحين جاؤوا كان كلّ شيء قد بدأ... أو كان كل شيء قد انتهى. إنّهم شهود على كارثة لم يروها، ومع ذلك ما زالوا يعيشونها إلى اليوم، كما يلازمنا مرض عضال أو تلاحقنا لعنة إغريقيّة. يتحرّكون في ظلّها، يعاشرون طيفها، تسكنهم أسئلتها الحارقة. يسعون إلى تجاوزها، لكنّ قوّة خفيّة تشدّهم إليها. الجيل الأسبق عاش الحرب، شارك في صنع خطابها، ثم ارتقى في الهرم السلطوي، أو اختار الخروج من الحلبة عند أحد المنعطفات الكثيرة. أما أبناء الجيل اللاحق، فجاؤوا متأخرين، لكنّهم لم يخرجوا من الفخّ. راحوا يبحثون في عمق اللاوعي الجماعي عن صور وذكريات وأسرار، عن تاريخ لا يعرفونه جيّداً، عن وجوه وأسماء أفلتت منهم... إنّهم ورثة الكارثة وحرّاسها في آن معاً.
كثيرون اختاروا الفنّ وسيلة للتطهّر من آثام لم يرتكبوها. إنّهم كبش الفداء، وحجر الزاوية في مشاريع السلام والإعمار الوهميّة الكاذبة... أو الطوباويّة في أفضل الأحوال. كي تعيد البناء، لا بد من أساسات صلبة متينة. لذلك سيشتغل معظم هؤلاء المبدعين الشباب على الحفر: الحفر في الذاكرة الجماعيّة، في الوجدان الجماعي، بحثاً عن وطن آخر ابتلعته الأنقاض، وشيّدت فوقه مدينة باذخة ومزيّفة. هكذا حفر أكرم الزعتري في حديقة «ذلك البيت»، بيت المهجّر الجنوبي العائد، بحثاً عن رسالة الاعتذار التي تركها له أحد المقاتلين في علبة قذيفة. واشتغلت لميا جريج على مشروع فيديو وتجهيز حول «أشياء الحرب»، قبل أن تكتشف أن الحرب لم تدخل فعلاً متحف الذكريات.
تجارب كثيرة رفدت هذا المشروع الأركيولوجي، واختارت غالباً أدوات ومفردات، أشكال فنيّة وقوالب مغايرة تنتمي إلى اللحظة الراهنة، وتقطع مع الأنواع الإبداعيّة التي صنعت مجد الستينيات والسبعينيات. البرفورمانس بدلاً من المسرح، والفيديو بدلاً من السينما، والتجهيز بدلاً من اللوحة، والكتابة الذاتية المباشرة بضمير المتكلّم، عن أشياء نافلة أو فجّة، بدلاً من النصّ المتماسك والحامل خطابه الجاهز. الفنون المعاصرة احتضنت جيل ما بعد الحرب، وصارت ملجأه ولغته ووسيلته التعبيريّة. لنقل إنّه مانيفستو المغايرة والتمايز الذي يعلن القطيعة مع لغة الآباء.