«حرب العاجز» (دار الساقي) مدوَّنة شبه توثيقية عن عودة مثقف عراقي من المنفى إلى بلده بعد غياب ربع قرن. وقائع تجربة زاخرة بالألم والدم والحيرة والخوف والعبث، بين الآمال والتصورات النظرية، وفظاظة الواقع وقسوته
حسين بن حمزة
لا يخالف الروائي العراقي زهير الجزائري العنوان الفرعي لكتابه «حرب العاجز» (دار الساقي)، فما يحتويه الكتاب هو «سيرة عائد، سيرة بلد» فعلاً. لكن ينبغي القول إنّ الحس الروائي لا يغيب عن الكتاب الذي أُريد له أن يكون مدوَّنة شبه توثيقية لعودة مثقف عراقي من المنفى إلى بلده بعد غياب ربع قرن. مع معرفتنا باسم البلد وجنسية المؤلف، لا بد من أن نضع جانباً أي رومانسيّة أو حنين مائع، ونحن نقرأ صفحات الكتاب الزاخرة بالألم والدم والحيرة والخوف والعبث. العراق الذي انتهت حقبة البعث فيه باحتلال القوات الأميركية له، لن يكون نزهة نوستالجية لعائدٍ يعاين موجودات ذاكرته ويتفقدها على أرض الواقع. لا يخلو الكتاب من معاينات كهذه بالطبع، لكن سرعان ما تعقبها أفكار ومقارنات واستطرادات من نوع آخر. لا يتلذذ المؤلف كثيراً بزيارة أمكنة مراهقته وشبابه، إذْ يندر أن يجد شيئاً في مكانه القديم. وهذا يشمل أفراد أسرته، الموتى منهم والأحياء. الموتى لأنّ حكَّ الروح المنفية بأرواحهم المقيمة ما عاد ممكناً. والأحياء لأن زمن الغياب الطويل جعلهم أشبه بغرباء يجب التعرف إليهم من جديد.
يكتب الجزائري تفاصيل عودته، لكن السرد والواقع يضطرَّانه إلى كتابة أجزاء وحوادث وتطورات من الحياة اليومية في العراق الراهن. يمتزج الخاص بالعام. الغائب العائد لا يُعطى الفرصة والوقت الكافيين ليعقد صلات هادئة ومتروّية بين العالم الذي تركه والعالم الذي عاد إليه. ثمة مرويات وشذرات شخصية وعائلية، وهناك مقارنات بين تصورات وآمال نظرية وبين فظاظة الواقع وقسوته. الانخراط في الواقع الجديد موجود في ذهن المؤلف وفي خطة كتابه أيضاً، لكن الانخراط هنا يكاد ينحصر بالشأن الثقافي، إذا استثنينا انتخابه عضواً في أول مجلس وطني وحضوره جلسةً واحدة وأخيرة.
القارئ يتقاسم مع المؤلف صعوبة تأريخ وتقويم ما هو قابل للتبدل والاختفاء في أي لحظة. لذلك، فمعظم مادة الكتاب قائمة على انطباعات وآراء تتكوّن تحت ضغط الواقع وصيرورته المتسارعة. لعل أهمية الكتاب تكمن هنا، أي تسجيل اللحظة وهي في طريقها إلى التغير، وتوثيق الحدث قبل أن ينجلي عن صورته النهائية.
منذ البداية، يجد القارئ إشارة واضحة إلى أن عودة المؤلف مقرونة باحتلال بلده. لنتذكر هنا أن ملايين العراقيين انقسموا بين بهجتهم العارمة بسقوط صدام حسين وخوفهم من المجهول الذي ينتظرهم. الفوضى والنهب والتفجيرات وضعت العراقيين في مواجهة آلام مخاضٍ لا تزال مستمرة حتى اليوم.
بعد جولات متتالية للراوي على مواضع الذكرى: شارع أبي نواس، حيث يفتقد سكارى ومقاهي الأمس، ويقف على «أطلال وهياكل خاوية». شارع الرشيد، حيث «للشارع تاريخه ولي تاريخي فيه» حسب تعبيره، ولكن التاريخين غائبان عن المكان. ثم ساحة التحرير التي «باتت الآن مركزاً للقتلة واللصوص وباعة المخدرات وحبوب الفياغرا المغشوشة في البسطات المفروشة حول نصب الحرية». يراقب صاحب «الخائف والمخيف» الفوضى القائمة ويستنتج: «ما كان ينبغي أن نبدأ بالديمقراطية أولاً، قبل ذلك كان علينا أن نبني دولةً ذات أسنان». وفي موضع آخر، نقرأ على لسان أحد أبناء الجيل الجديد: «نحن لا نصلح للديموقراطية، نريد قائداً مرهوباً يخيف الناس ويعلّمهم النظام بالقوة».
يعيش الجزائري عودته كمواطن عادي وكاتب وصحافي ومناضل حزبي ومنفي سابق. الكتاب هو مزيج من كل هذه الصفات. ما يكتبه صاحب «حافة القيامة» يتحول إلى شهادة حارة وحائرة مجبولة بألمٍ يصعب ترجمته إلى كلمات مماثلة له. نقرأ ونكتشف ما كنا نسمعه عن أهوال العراق، ولكن الأهوال هنا ملموسة وموثَّقة ومؤرخة. سقوط النظام كشف «التاريخ السري» لحقبة كاملة: «القصص القديمة التي خاف الناس من تداولها حتى في بيوتهم، منها وقائع الحروب وأهواؤها، قصص الضحايا الذين حَرَّم النظام البكاء عليهم وإقامة الفاتحة على أرواحهم، تدفقت فجأة». فصول الكتاب لا تختلف كثيراً عن تلك القصص المحظورة. الراهن ليس فردوساً كي تجري مقارنته بجحيم الماضي: «الضحايا يطاردون جلّاديهم بعدما كانوا يهربون منهم (...) بعدما كانت أسرار الناس العائلية مكشوفة للسلطة، باتت أسرار السلطة العائلية، بما في ذلك الحفلات داخل العائلة والسهرات الخاصة لأولاد الرئيس، متاحة للجميع على شكل أقراص ينادي عليها باعة البسطات».
الكتاب مزدحم بالوقائع والتفاصيل. ذكريات الماضي وفوضى الحاضر ليستا بطلين وحيدين. ثمة جانب آخر ينكشف مع انخراط المؤلف في الوسط الثقافي، وعمله رئيساً للتحرير في جريدة «المدى» التي أصدرها فخري كريم، حيث «تبرز طائفية من نوع جديد»، وثقافة «الداخل والخارج». رغم اندفاعه في التجربة إلا أنّها ستنتهي بخلاف مع مالك الجريدة على حرية الكتابة والخطوط الحمر. يؤسس الجزائري وكالة أنباء باسم «أصوات العراق». الأوضاع الأمنية تجبره على الانتقال إلى مصر. هناك يطيب له أن يختم الكتاب بمشهد ساخر ومؤلم. التلفزيون يعرض كليب لهيفا وهبي وهي تغني: بدي عيش كل لحظة من حياتي. الكاتب يقول لنفسه: «تعلّم منها وانس البلد». لكن الصورة التالية تنقل صور قتلى في بغداد!