«أقتفي أثري» (دار طوى) رواية تسلّط الضوء على المعاناة العراقية، بين الخوف من أزلام السلطة السابقة والريبة من الاحتلال الأميركي. هكذا، ينتفي الفرق بين المنفى والوطن الذي يصبح مجرد ذكرى
حسين السكاف
في لحظة سقوط التمثال، وبغضّ النظر عن الطريقة التي نُحِرتْ بها رقبته البرونزية، اتّحد عراقيّو الشتات للمرة الأولى في حياتهم واستيقظ في داخلهم شعور العودة إلى الوطن. على أثر ذلك، استلَّ الشاعر والكاتب العراقي حميد العقابي من تلافيف ذاكرته ثلة من الناس واتجه بهم إلى الوطن سيراً على الأقدام عبر الصحراء ليمثّلوا أبطال روايته «أقتفي أثري» (دار طوى ـــــ الرياض).
رحلة نتعرّف إلى حيثياتها وهلوساتها ومخاطرها، وحتى أحلامها وكوابيسها، من خلال شخصيّات ظلّت صورهم وأرواحهم المصابة بفيروس الوطن محفورةً في ذاكرة المنفى التي يزيد عمرها على ربع قرن. هكذا، يمثّل العقابي قافلته العائدة إلى الوطن مشياً على الأقدام لاقتفاء أثر رحلة الهروب نهاية السبعينيات من القرن المنصرم. قد يتساءل القارئ وهو يعيش دراما الرحلة الشاقة إلى الوطن: تُرى لماذا العودة سيراً على الأقدام وعبر الصحراء؟ هل هو الإمعان في تعذيب الروح حتى تبلغ ذروة لذّتها وهي تتصيّد حلمها سيراً؟ السؤال يتلمّس القارئ إجابته في التوأمة التي يصوغها الراوي بأسلوب سردي متناغم بين العودة والهروب، بين الخوف من أزلام السلطة في السابق والريبة من أزلام الاحتلال الأميركي. إنّ اقتفاء أثر الخروج من الوطن والهروب بعيداً، هو في الحقيقة تقصٍّ لسبب الخراب الذي تمخّض عن كوابيس حياتية، يمثّل المنفى جزءاً لا يستهان به من مكوّناتها. البحث عن حانة مفترق الطرق «أولى قلاع الغربة وآخرها للعائد» تمثّل محور الفكرة ودليلها الأول. إذ لم يكتفِ الراوي باقتفاء أثر خطوات الهروب الأولى من الوطن حيث المنفى. الفكرة أوسع من هارب يجتاز أسلاك الوطن الشائكة، إنها ليست خطواته هو، بل خطوات الملايين الذين فرّوا من بلد المشانق والحروب، فما من «خرم» في الحدود إلّا وعَرف أقداماً هاربة، كما أنه ليس حلم الراوي وحده في العودة إلى الوطن، بل هي أحلامهم أيضاً. لذا، راح الراوي يقتفي أثر الذكرى مراهناً على أن التاريخ لا ينسى، «أي وطن هذا! نهرب منه فيهرب خلفنا كي يطاردنا، لم يأتِ إلينا (ولو مرة واحدة) كي يسامرنا أو يواسينا ويعظّم أجرنا... كلنا ثكلَى الأحبة. أي وطن هذا؟».
من خلال انتقالها بين قساوة الماضي وتخبّطات الحاضر وأوهامه، تسلط الرواية الضوء على معاناة الروح العراقية الهاربة من وطن الحروب والإعدامات لتجد نفسها في خضمّ المذابح والسجون في «الملاذات الآمنة» عند دول الجوار الذين «أرادوا منا أن لا نحمل هويّات بقائنا بل علينا أن نحمل وثائق نفينا أو فنائنا، أرادوا أن يجعلوا منّا طيناً اصطناعياً يعيدون تشكيلنا وفخرنا في أفرانهم متى شاؤوا وعلى الهيئة التي يرغبون...» والمتتبّع لمشهد المنفى العراقي يعرف تماماً أنّ إحدى دول الجوار ما زالت تقطع بالسيوف رقاب من احتموا بها من العراقيين.
أُريدَ من القافلة التي صنعها الراوي أن تكون صورةً مصغرةً للعراق: سنّة، شيعة، مسيحيون، صابئة، دجّالون، شيوعيون سابقون، إسلامويون، علمانيون... صورة من داخل الوطن وجهتها الوطن. فكرة متشابكة ينقصها الوضوح تماماً كما هو العراق. كل شيء فيه وهم، كوابيس، حتى الموت أصبح وهماً. حين تلبَّس الحزن بطل الرواية بسبب فقدانه صديقه السطحي البسيط «علي كارثة» الذي أكلته الذئاب، يكتشف القارئ بعد حين أن الذئاب مجرد وهم: وهمٌ داخل الروح العراقية العائدة إلى الوطن، وبالتالي يصبح الموت وهماً رغم تلمّسنا لدمائه الساخنة.
الرواية التي صاغها الكاتب بأسلوب سردي لا يبتعد عن الهوس الشعري، قد تُتهم بقسوتها على الوطن المنهك بالحروب والاحتلال ومفخّخات التكفيرين. إلّا أنّ الواقع أكثر سواداً وإحباطاً مما جاءت به: «أي وطن هذا... ليله ذئاب ونهاره جهنم... ذَهَبُهُ غوايةٌ، ماؤه تاريخ من الدماء والحبر... أشجاره المغبرّة ونخيله المحترق لا تسمع بين عذوقه شدو فاختة... ليس سوى نائحات فقدن أحبتهن في الحروب وعاهرات يخبئن واردات موتنا في قوارير عطورهن».
ويبقى السؤال قائماً حين يتلاشى الفرق بين الوطن والمنفى: هل تنتصر الأمنية وتصل القافلة حيث الوطن وإن كانت من نسج خيال، أم تبقى الرغبة الملحة في التخلص من كابوس اسمه «وطن» أكثر واقعية؟ سؤال سيجد القارئ إجابته داخل النص وعلى أرض الواقع، إن التفت إليه وأمعن النظر. الوطن منذ زمن، صار ذكرى ليس إلا.