ورشة عمل في القاهرة عن مجموعة إعلانات قديمة تنتمي إلى ما قبل ثورة ١٩٥٢. قام المشاركون بالتنويع عليها من وحي الزمن الراهن، وفق زاوية نظر محدّدة إلى العالم

وائل عبدالفتاح
القاهرة مدينة مرحة وخفيفة، ليلاً فقط. شعبها الآخر يصحو ويجول في شوارع تتخلّص من حمولتها الثقيلة وشعبها النهاري المتورط في استعراضات الزحام النشط. يتفادى شعب الليل كمائن الشرطة لينفرد بالمدينة. يلعب بين أشباح بناياتها الغارقة في السكون. تتسرب من بين جنباتها، إضاءة تتيح لسكان الليل التجوال والتسكع واللعب مع المدينة.

«يشارك شعب الليل عمالقة مضيئة لا تنام». هكذا يصف محمد جمعة الإعلانات في ورشة اقترح فيها اللعب البصري مع «العمالقة المضيئة». ورشة ترى الإعلان يحمل ثقافةً كامنةً مع رسالته في ترويج منتجات الماكينة العملاقة للاستهلاك.
تبدو القاهرة في حضرة عمالقة اليوم مدينة غريبة. نجومها بلا ملامح، ملساء، لا تحمل حكايات. حضور يفتقد علاقة مع المدينة. أفيشات ضخمة في الشوارع وصور لنجوم الطرب في سعادة قصوى. وجوه في قمة الأناقة. أجساد مشدودة، على خلفية ألوان صاخبة. أبطال بُلَهاء، في لحظات مرح ساذجة أو حكمة فارغة. رغم كل السعادة الظاهرة، ليس بين هذه الوجوه، وجه واحد له حكاية تقرأ فيها ملامح العصر الذي نعيشه. كل الوجوه ملساء، مسطّحة، لا تقول شيئاً أكثر من الإعلان المجاني عن البلاهة.
من هنا اللعب مع عمالقة قاهرة أخرى أقدم، لكنّها تحضر ببهاء غريب للساخطين على قاهرة اليوم. بهاء يجسّد نوستالجيا احتمال أو هروب ربما، لكنّه تمرّد على لحظة راهنة. اللعب الذي قدمته ورشة محمد جمعة مهم على مستويات كثيرة بينها الكشف عن خيال اللحظة وشحناتها المؤثرة وشكل التفاعل مع حزمة رسائل إعلانية تقود إلى جنون الاستهلاك.
محمد جمعة تخرّج من كلية الفنون الجميلة قسم الحفر (2000) وأعماله المنفردة سر خاص، يمارسه بوحدة غريبة. حوار بينه وبين سطوح الزنك أو الخشب، يخفيها في عزلة لا تناسب عمله في «الميديا»، حيث لغة التواصل هي الموضوع الكبير. كيف تخلق لغة رسائلك إلى الجمهور؟ كيف تتسرّب إلى الدماغ والعواطف معاً؟ ما هي حدود تأثيرك؟ هذه ألعاب الميديا، وعالمها الرحب الصاخب المناهض للعزلة الذي اختاره مجالاً للعمل في الصحافة والتلفزيون، وموضوعاً لورشة في «التاون هاوس» منحها اسم «كل ما تحتاجه»، ومزج فيها بين اللعب مع العمالة المضيئة وكيفيّة تكوين رسالة ليست تجارية في إعلان صُمِّم ليروِّج سلعة أنتجتها آلة الصناعة العنيفة. اللعبة كانت اختيار مجموعة إعلانات قديمة تنتمي إلى ما قبل ثورة ١٩٥٢، وهي فترة مفكوكة نسبياً وحرة في اختراع رسائل تجارية بلا السقف الذي وضعه وصول الضباط الأحرار إلى السلطة. الورشة استقطبت رسّامين وعمالاً وطلبة، مصريّين وأفارقة وأوروبيين، وأعماراً مختلفة. المشاركون (93) توزّعوا على مجموعات اختارت كل منها إعلاناً قديماً، واختارت اللعب معه وفق الاهتمام والموقف وزاوية النظر إلى العالم. تنوّع اللعب بين السخرية والتعبير السياسي والتلاعب برسالة تحملها عمالقة الماضي، لتصبح رسالة أخرى تحمل مشاغل حاضرة. هكذا، ظهرت الفلاحة المصرية التي تتزين بمصوغات الجمل وعليها تاج «ماكدونالد» الذي يضيء مدخل قلب القاهرة بعلامته التجارية كأنّه أكبر من التعريف، كما لم يعد أحمر شفاه «بيزيه» كافياً لتهيئة الشفاه للقبل، لا بدَّ من حقنها بالسيليكون. أمّا الشفرات الشهيرة، فأصبحت للبلطجة الانتخابية... وسروال الجينز الشهير الذي يكثّف غواية الجسد أصبح ملحقاً بالنقاب، وإن لم تختف الدراجة النارية. ترنحت العمالقة المضيئة تحت وقع رسائل جديدة. رغم سخريتها إلا أنَّها محكومة بثقافة غير منفلتة. جرأتها تعبيرية مباشرة ومحكومة بحدود قصيرة المدى. رسائل كاشفة عن انكماش في خيال القاهرة الحالية.
القاهرة القديمة أكثر انفلاتاً، وجرأة، وصدامية، وانفتاحاً (أو تبعية) للعالم. خيال الحاضر محافظ، حذر، يبحث عن مهارات تقنية. سيسلم لحدود المدينة الحالية، ويكتفي بالخربشة على البنايات النائمة.