من يمكنه أن يستعيد الأديب والناشر الراحل أفضل من نجله وتلميذه ورفيق الجزء الأخير من مسيرته؟ هنا مساهمة سماح في التكريم الذي أقامته وزارةُ الثقافة المغربيّة للدكتور سهيل إدريس
سماح إدريس*
يخيَّل إليَّ أنّ الصفةَ الأبرز في سهيل إدريس هي صفةُ المثقّف الملتزم بقضايا مجتمعه. بل إنّ مجمل إنتاجه في الرواية والقصة والترجمة والتأليف المعجميّ، وفي ميدان النشر، وفي «اتحاد الكتّاب اللبنانيين» و«الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب» و«الاتحاد العام لأدباء آسيا وأفريقيا»... كان الحافزُ الأوّلُ إليه الالتزامَ بتطوير المجتمع العربي في اتجاه الحريّة والوحدة والعدالة.
لنبدأ من زيارته إلى باريس مطلع الخمسينيات. صحيحٌ أنه ذَهَبَ لنيل درجة الدكتوراه من السوربون، ولتنشّقِ نسائم التفلّت الاجتماعي من قيود المجتمع العربي؛ إلا أنّه حرص، في قلب باريس نفسها، على اكتساب الوعي السياسي. فكان أن التقى بعدد من المثقفين العرب ــ وكثيرٌ منهم ينتمون إلى حزب البعث ــ الأمرُ الذي أسهم في تكوّن وعيه القوميّ. ولا ريب في أنّ قارئ روايته الأولى «الحيّ اللاتينيّ» (1953)، لن يفوتَه أنّ شخصيّة فؤاد (القومي العربي) ترخي بظلالها على هذا العمل برمته، وتَرسم للبطل خياره: العودة إلى لبنان والعمل من هناك على تطوير المجتمع العربي واستقلاله.
وإذا انتقلنا إلى مجلة «الآداب»، برز لنا قوله في افتتاحيته الأولى (1953): «تؤمن المجلة بأن الأدب نشاط فكري يستهدف غاية عظيمة هي غاية الأدب الفعال الذي يتصادى ويتعاطى مع المجتمع، إذ يؤثِّرُ فيه بقدر ما يتأثر به». ويضيف أنّ على الأدب، كي يكون صادقاً، ألّا يكون منعزلاً عن المجتمع الذي يعيش فيه.
فإذا عرجنا إلى ترجماته الأولى، وبخاصة ترجمته للفكر الوجودي، لفتنا اعترافه بأنّ اهتمامه بترجمة هذا الفكر «نابعٌ من اهتمام كبارهم، ولاسيما سارتر، بالنضال القوميّ». ويُضيف في حواره مع يسري الأمير («الآداب»، 10، 2000) أنّ ما حفّزه على حب سارتر كان موقفه الشاجبَ للاحتلال الفرنسي للجزائر، وأنه «كان طبيعياً بعد ذلك أن أحب هذا الكاتب، وأن أترجم عدداً من مؤلَّفاته، وقد كنت أطمع إلى أن نكتسب هذا المفكر العالمي إلى صفنا في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين». ولعلنا نتفهم بعد ذلك، ندمه على ترجمة سارتر بعد زيارته الكيان الصهيوني.
وإذا انتقلنا إلى معجم «المنهل» الفرنسي ــــ العربي، فسنرى أن هذا العمل نفسه قد كان ثمرة شعور إدريس بلا جدوى الكتابة الإبداعية عقب هزيمة حزيران (يونيو) 1967. لقد هالَه مقدار الأكاذيب التي روجت نصر العرب قبيل النكسة الماحقة، فاكتشف أنّ «السبيل الأفضل للتصدي والمقاومة» بعد تلك النكسة «إنّما هو سبيلُ اللغة ووعينا الحقائق والمفاهيم لسانياً قبل كل شيء»! وقد فتح المجال في مجلة «الآداب» لمواصلة الاحتجاج: فكان «بيانُ 5 حزيران» لأدونيس، و«هوامش على دفتر النكسة» لنزار قباني، وعشراتُ المقالات ـــ المباضع في جسد الهزيمة.
بيْدَ أنّ أكثر ما كتبه سهيل كان مقالاته في مجلة «الآداب»، وفيها تتخلق نظرية متكاملة في الالتزام، قوامها عناصر خمسة: أولاً، المواكبة والشهادة؛ ففي رأيه أنّ على الأديب والمثقف أن يكون شاهداً على عصره وكاشفاً لمعاني أحداثه. ثانياً، التغيير؛ فدور الأديب والمثقف هو تغيير المجتمع العربي باتجاه الوحدة والحرية والاشتراكية. ثالثاً، رفض الهتاف والدعاية في الأدب الملتزم، بل العمل على إرهاف نواحيه الفنية. رابعاً، نبذ الإلزام الحزبي والسلطوي؛ فإدريس لا يؤمن بعبارة «واجبات المثقف» لأنّها توحي بأنّ هناك «إلزاماً له بأن يقوم بعمل ما»، في حين أنّ الكاتب الحقيقيّ «لا يلتزم إلّا بضميره ووعيه». خامساً، إنكار تقديم الحريات الديموقراطية على مذبح المشاريع القومية.
ولكن كيف يوفِّق الأديب بين مواكبة الحدث، وإرهاف الناحية الفنية التي تتطلّب وقتاً طويلاً؟ تلك مسألة أقضّت مضجع سهيل. وكان أن أَوجَد تمييزاً طريفاً بين الحدث من جهة، والزمن من جهة أخرى: «فإذا لم يتمكن الأثر الأدبي الذي يعقب الحدث من أن يكون له تأثير في هذا الحدث، فإنّه مُطلق الطاقة والقدرة لممارسة هذا التأثير في أحداث لاحقةٍ قد تُشبه هذا الحدث أو لا تشبهه». مبدأ الالتزام هو المهم إذاً، لا توقيته، وفي هذا التمييز ردّ على من يدين الالتزام جزافاً فيحصره بالانفعال الآني.
غير أنّ سهيلاً لا يريد من الأديب والمثقف أن يصمت حين تقع «الأحداث»، ولا سيَّما إذا كانت من نوع مقاومة بورسعيد أو هزيمة حزيران أو مجزرة أيلول. فكيف التوفيق وتلك الأحداث من الكثرة بحيث تكاد تأتي على كامل التاريخ العربي المعاصر... وكامل وقت المثقف لو شاء الالتزام بها؟ أطرح هذا السؤال وفي بالي أنّ سهيلاً، بالإضافة إلى عمله الأدبي والنشري والمعجمي والترجمي، تولى رئاسة «اتحاد الكتّاب اللبنانيين» أربع دورات، أي ما مجموعه عشر سنوات، رسم لنفسه خلالها مهمات أساسية: الدفاع عن الوحدة العربية، وعن حرية التعبير، وعن القضايا العادلة وعلى رأسها قضية فلسطين. وقد دفعه ذلك إلى خوض المعارك، وإصدارِ البيانات، وحشد «المناصرين»... وكلها مشاغل لا تترك للأديب مجالاً واسعاً لإرهاف فنّه.
وأحسب أنه عاش طوال عمره نزاعاً داخلياً مريراً بين شخصية الأديب، وشخصية المثقف. فالمثقف يدعوه إلى الحركة، والتحريض، والصراخ، وتصدُّر التظاهرات، وعقد الاجتماعات، وتسطير البيانات والافتتاحيات. والأديب يهتف به أن اجلس، تأمَّل، اهدأ، هذِّب، تخيَّل، اشطُب، وسّع. ولم يكن إدريس من طبيعة تَهرب من المعارك، ولذا فضَّل في أكثر سنوات عمره أن يُغلِّب صورةَ المثقف على صورة الأديب. ذلك أنه لم يُطق الصمت والجلوس طويلاً، حتى حين انكبَّ على العمل المعجمي الأول (المنهل) بين عامي 1967 و1970.
والحق أنّ سهيل إدريس لم يَصمُت حتّى بعد رحيله! وهو سيَبرز قريباً أمام قرّائه مثقفاً وأديباً ولغوياً ونهضوياً، بكلّ ما لهذه الكلمات من معنى، مع صدور قاموسه الجديد، المنهل العربي ــــ الفرنسي الذي تعمل عايدة ورنا على إنجازه في أبهى صورة (وكان الشهيد د. صبحي الصالح قد شارك فيه جزئياً). ثم يصدر قاموسه الأضخم، المنهل العربي ـــ العربي، في سبعة آلاف صفحة كبيرة، وهو عمل شَرَّفني بأن أسهم فيه منذ سنة 1985 إلى جانبه وإلى جانب الشهيد الصالح. وسهيل ما يزال إلى جانبي، حتى اللحظة، في عملي هذا. وإليكم هذه الحادثة التي جرَتْ معي قبل يومين. فقد اتّصلت أحلام مستغانمي بأختي رائدة لتسألها إن كنت أتذكر صَدْر بيت المتنبي الذي عَجُزُه هو التالي: «وما لِجُرْحٍ بميِّتٍ إيلامُ». حاولتُ أن أتذكر، فلم أُفلح. عدتُ إلى عملي الذي أعكِفُ عليه منذ ثلاثة شهور، وهو ضبط ما أنجزه سهيل بخط يده من حرف الهاء. وفجأةً، رأيتُ سهماً، بخطّ سهيل، يُشير إلى نهاية الصفحة، حيث كلمةُ «هوان». وهناك قرأت: «مَنْ يَهُنْ يَسْهُلُ الهوانُ عَلَيْهِ/ما لِجُرْحٍ بميِّتٍ إيلامُ»!
لم تخذلني يا صديقي الأعزّ مرّةً، لا في حياتك، ولا بعد رحيلك الجسدي.
* رئيس تحرير مجلة «الآداب»