الَّلهوُ الغريب مستمرّ بين الشاعر وظلاله

بعد ستّة أشهر على دخوله «في حضرة الغياب»، يعود الشاعر إلى قرّائه بقصائد لم تنشر، عُثر عليها في منزله الأردني، وأصدرها ناشره البيروتي تحت عنوان «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» («دار الريّس»). إنّه محمود الذي عرفناه في المرحلة الأخيرة. لا تغيُّر مباغتاً أو فارق حاسماً، لولا أن طعم الموت يبدو أشد مرارةً

حسين بن حمزة
ليس سهلاً على قارئ محمود درويش أن يتلقَّى ديوانه الأخير «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» (شركة رياض الريس للكتب والنشر). هيهات أن ننجو من فكرة أنّنا بصحبة القصيدة من دون صاحبها. لطالما كانت القراءة مسألة فردية ومزاجية بالطبع، لكنها هذه المرة ذات مذاق مختلف ومصحوب بألم الغياب. سوى ذلك، لا نجد تغيُّراً مباغتاً أو فارقاً حاسماً عما كنّا نقرأه للشاعر في أعماله الأخيرة. «الديوان الأخير» ـــــ بحسب ما جاء على الغلاف ـــــ هو استمرار للعالم الدرويشي الذي تكيَّف القارئ معه بإيعازٍ من الشاعر نفسه. انعطف صاحب «ورد أقل» أكثر من مرة. سلك دروباً جانبية. راق شعره وتصفَّى، تخفّف من الدرامية العالية، استثمر علاقات النثر، حضرت ركاكة الحياة اليومية ومهملاتها إلى جوار المجاز المعجمي العالي... لكنّه، وقرّاءه، لم يفلتوا خيط الشعر المتين الذي جمع الطرفين. نجح الشاعر في إغواء شرائح واسعة من جمهوره، القدامى منهم والجدد، على مواكبة قصيدته التي راحت تتخفَّف من حمولات سابقة وتثقل بحمولات جديدة. جدّد الشاعر شبابه الشعري وجدد ذائقة جمهوره أيضاً، إلى حد يمكن وصف ما حدث بنوع من تربية مبتكرة تلقاها هذا الجمهور، إذْ يندر أن نجد علاقة كهذه جمعت بين شاعر وجمهوره.
ليس بوسعنا تجنُّب كل هذا ونحن نقرأ آخر ما كتب درويش. لا يتبدد إحساسنا بالمرارة. إذْ نعلم أن لا قصائد جديدة سوف تتلو ديوانه الأخير. نقرأ فنستعيد صداقتنا الفاتنة مع مهاراتٍ وتقنياتٍ ومعانٍ واستعاراتٍ واظب الشاعر على إشباع نهمنا لها. الموت الذي لم يتغيَّب عن أعماله الأخيرة حاضرٌ هنا. الَّلهوُ الغريب الذي جمع الشاعر مع أَجَلِهِ مستمر. الفارق أنّه مؤلم أكثر حين نقرأ ذلك بعد رحيل الطرف الأكثر هشاشةً في اللعبة. لنقرأ هذا المطلع الآسر في القصيدة التي حمل الديوان عنوانها: «يقول لها، وهما ينظران إلى وردةٍ/ تجرحُ الحائطَ: اقتربَ الموتُ مني قليلاً/ فقلتُ له: كان ليلي طويلاً/ فلا تحجب الشمس عني/ وأهديته وردةً مثل تلك/ فأدَّى تحيَّته العسكرية للغيبِ/ ثم استدار وقال:/ إذا ما أردتُكِ يوماً وجدتُك/ فاذهبْ/ ذهبتُ». في قصيدة «في بيت نزار قباني»، يتكرّر المعنى ذاته: «قلتُ له حين متنا معاً/ وعلى حدة: أنت في حاجةٍ لهواء دمشق/ فقال: سأقفز، بعد قليلٍ، لأرقد في/ حفرةٍ من سماء دمشق. فقلتُ له: انتظر/ ريثما أتعافى، لأحمل عنك الكلامَ/ الأخيرَ، انتظرني ولا تذهب الآن، لا/ تمتحنِّي ولا تَشْكُلِ الآسَ وحدك/ قال: انتظر أنت، عشْ أنت بعدي، فلا بدّ من/ شاعرٍ ينتظر/ فانتظرتُ وأرجأتُ موتي». في الحالتين، نعاين ذاك اللعب، المجازي والحقيقي، مع الموت. اللعب الذي مدَّ الشعر العربي المعاصر باحتياطيٍّ لا يُنسى من الكتابة التي خلطت الخلود الشخصي مع الخلود الشعري. أمهل الموتُ الشاعرَ أكثر من مرة. تبادل معه اللعبة ذاتها. كتَّبَهُ بعض أفضل أعماله. الخلود الحقيقي ماكثٌ في تلك الأعمال وليس في الجسد الغائب الذي ـــــ بعد كل تلك المواجهات القريبة والخطرة مع الموت ـــــ قال صاحبه: «من أنا لأخيِّب ظنَّ العدم؟» لكنه قال أيضاً: «أنا القويّ وموتي لا أكرره/ إلا مجازاً، كأنّ الموت تسليتي».
في المقابل، ننتبه إلى نزعة أخرى رافقت النصّ الدرويشي في العقدين الأخيرين وهي منح القارئ فرصة التجوال في الفناء الخلفي لقصيدته. إنّها لعبة أخرى يُشركُ بها صاحب «لا تعتذر عما فعلت» القارئ في أسرار «فنّه» الشعري. «لا دور لي في القصيدة/ غير امتثالي لإيقاعها/ (...)/ لا دور لي في القصيدة إلا/ إذا انقطع الوحي/ والوحي حظُّ المهارة إذْ تجتهد». يقول في «لاعب النرد» ثم يخصص قصيدة «إلى شاعر شاب» بكاملها ليستعيد سماتٍ حقيقية، وأخرى مشتهاة، في ممارسته الشعرية مكتوبة على شكل نصائح لشاعر مستجد: «قد تسمي نضوب الفتوة نضج المهارة/ أو حكمةً/ إنها حكمةٌ، دون ريب،/ ولكنها حكمة اللاغنائية الباردة». ثمة لذة مضاعفة في كتابةٍ كهذه تسعى إلى إنجاز قصيدة، وإلى تضمين «وصفة» كتابتها فيها. الاستعارة السابقة تقودنا إلى حجم ونوعية التطوير الذي أحدثه درويش في قصيدته التي خفت صوتها العالي، وصارت أقصر وأكثف، وقلَّ فيها التنامي الدرامي والغنائي والعاطفي الذي يحدث على حساب المعنى... حتى إنّ بعض القصائد القصيرة في دواوينه الأخيرة صارت تستدرج ما راج لدى شبان قصيدة النثر في طبعتها اليومية والشفوية.
من جهة أخرى، ينبغي ألا ننسى أن درويش ورِث أفضل تقاليد القصيدة العربية الكلاسيكية، وكان أبرز كتَّاب قصيدة التفعيلة. القصد أنّ مثابرة الشاعر على تطويع ما بدا عصيّاً على قصيدته لم تُخرج نبرته من صورة الشاعر كما هي في التراث العربي. إذا كان الشاعر نبيَّ جماعته ولسان حالها، فإن محمود درويش كان نبياً مماثلاً لكن من نوع معاصر. إنّه «الشاعر» بأل التعريف، وبالمعنى الذي خلَّدته الذائقة العربية في تعاطيها مع فنّ الشعر على امتداد قرون. ولهذا، لا نستغرب أن نقرأ قصائد عدّة مكتوبة بإيعازٍ من العمود الشعري العربي، كما هي الحال في قصيدة «ههنا» و«إذا كان لا بد» و«يأتي ويذهب» و«من كان يحلم».. حيث يمرِّغ الشاعر عبارته الحديثة في تفعيلات الفراهيدي المعتَّقة، تلك التي تصنع له قرابة مع أقران سبقوه في الزمن، لكنه حاول مجايلتهم في المجاز. أسماء مثل امرئ القيس وطرفة والمتنبي وأبي تمام ... ليست بعيدة في هذا السياق. ويمكن أن نُلحق قصيدة «طللية البروة» كتفصيل آخر في تَرِكة درويش الشخصية من الإرث الشعري العربي. بل إنه يقف على ما يتخيّله من مسقط رأسه المدفون تحت منشآت بناها الاحتلال الإسرائيلي على أرضها: «أقول لصاحبيَّ: قفا لكي أزن المكانَ/ وقفره بمعلقات الجاهليين الغنية بالخيول وبالرحيل/ (...)/ ويُقاطع الصحفيُّ أغنيتي الخفيّة: هل/ ترى خلف الصنوبرة القوية مصنع/ الألبان ذاك؟ أقول كلا. لا/ أرى إلا الغزالة في الشِّباكْ/ يقول: والطرق الحديثة هل تراها فوق/ أنقاض البيوت؟ أقول: كلا. لا/ أراها، لا أرى إلا الحديقة تحتها/ وأرى خيوط العنكبوت».
«لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» كتب درويش. والأرجح أنّها لن تخيِّب رجاءه.


لم ينظّم أوراقه قبل الرحيل


في الكرَّاس المرفق مع ديوان محمود درويش الأخير، يروي إلياس خوري حكاية العثور على قصائد الديوان في منزل الشاعر في عمَّان، ويتوقف عند «مفاجأة» أن الشاعر لم ينظِّم أوراقه قبل الرحيل، ويضيف: «يبدو أن الرجل صدَّق الأطباء وكذَّب حدس الشاعر الذي جعل الموت يتسلل إلى قصائده الأخيرة». كلام خوري يدفعنا إلى استعادة فكرة أن صاحب «جدارية» كان يعلّل النفس بجولة أخرى من لعبته الخطرة مع الموت. داخل هذه الفكرة، تشعُّ فكرة أخرى ذات دلالة أهم، وهي أنّ محمود درويش بدا في دواوينه الأخيرة أشبه بشاعر شاب اهتدى للتوّ إلى نبرته وجملته وصوته. سمّينا ذلك انعطافة تارةً، وتطوّراً أو توسيعاً للتجربة طوراً... ولكن كل هذه التسميات لا تنجح تماماً في القبض على صورة الشاعر في الفترة التي سبقت رحيله. لا نقصد هنا «الحمى» الشعرية التي أصابته، ولا الغزارة التي كتب بها مقارنة بمراحل سابقة له، بل نشير إلى نوعية هذه الغزارة والتعديلات الحاسمة التي أصابت توقيعه الشعري. صحيح أنّ سمعة درويش وشهرته ورمزيّته ظلت ملازمة له، إلا أن هذه الصفات ذاتها راحت تعوق حيويته ورغبته في مغادرة أرض هذه الصفات إلى مناطق شعرية مجهولة له ولقرائه. الذين عرفوه عن قرب، يدركون كم كان فرحاً بـ«شبابه» الشعري. لم يكن درويش يواصل كتابة تلك النصوص التي صنعت اسمه. لم يكن ذاك الشاعر النجم المكتفي بمجده القديم. كان يقرأ التجارب الجديدة. يتذوّق النثر الذي اتسعت مساحته على حساب الإيقاع. يفرح إذا قيل له إنّ كتابه «في حضرة الغياب» هو قصيدة نثر طويلة. كان يُزاحم من جاؤوا بعده، ويعرف ـــــ بمهارة المعلِّم التي يمتلكها ـــــ كيف يكون متفوّقاً بين التلامذة أيضاً.
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ الكثير من نتاج درويش الأخير مدينٌ لاحتكاكه، المعلن وغير المعلن، مع تجارب شعرية شابة. ليست هذه مناسبة للتواضع بالطبع. لكن لنتذكر أنّه، ذات يوم، وضع مقطعاً للراحل بسام حجار في مستهل قصيدة له.