إشكاليتان أساسيتان برزتا في الندوة التي تناولت تراث العاصمة اللبنانيّة في قلب المتغيّرات العمرانيّة والثقافية والاجتماعية: هويّة البيروتي والتشويه الإعلامي لصورة البطل الشعبي
زينب مرعي
هل تقول «أبو عبد» البيروتي أم «أبو العبد»؟ إن كنت تقول «أبو العبد» مع أل التعريف، فأنت تشير إلى النسخة «المطوّرة» من تلك الشخصية التي خضعت لتغييرات تعاقبت على بيروت وتأثرت بتنوّع نسيجها السكّاني. هكذا، تحوّل «أبو عبد» الشخصيّة الأصليّة إلى «أبو العبد» بعد اختلاط الفلسطينيين بأهل بيروت في السبعينيّات بحسب وجيه فانوس.
هذه الشخصيّة كانت الحاضر الأبرز في ندوة «تراث بيروت في الحفظ والصّون» التي أُقيمت في فندق «البريستول» ونظّمها الاختصاصي في علم الألسن نادر سراج، بدعم من النائب سعد الحريري وبدعوة من وزيرة التربية والتعليم العالي بهيّة الحريري.
تناولت الندوة الشخصية التراثية المدينيّة البيروتيّة، فبحثت في تأثّرها بالتحوّلات الثقافيّة، الاجتماعيّة والعمرانيّة في بيروت. وقد برزت إشكاليتان في الندوة: هوية البيروتي وتشويه الإعلام لصورة «أبو عبد» كمثال للشخص البيروتي.
اعتبر طارق قزاز أنّه كلّما ازداد الاختلاف والتنوّع في النسيج السكّاني للمدينة، برز هذا التنوّع في هندسة المدينة وأبنيتها وحتى في طريقة تطبيق القانون. لذلك، فالتغيّرات التي تتالت على بيروت أثّرت على الشخصية التراثية فيها.
وتابع أسامة العارف في بحثه مسار تطوّر الشخصيّة البيروتيّة على الصعيدين الثقافي والاجتماعي. ورأى أنّ هناك خطأً منهجياً في اعتبار الشخصيّة البيروتيّة من المذهب السنّي، بينما هناك عائلات بيروتيّة عريقة تنتمي إلى طوائف أخرى، وخصوصاً الأرثوذكس والدروز. واعتبر العارف أنّ السنّة البيارتة تأخروا في التطوّر الثقافي والاجتماعي أكثر من المسيحيين، بما أنّهم كانوا مجبرين على تأدية الخدمة العسكريّة أو الانخراط في الجيش العثماني. بينما كان المسيحيون ينعمون بترف التعلّم في أحضان الإرساليات الأجنبيّة. ولم تعرف الطائفة السنّية نهضة حقيقيّة إلا مع إنشاء جامعة بيروت العربيّة في الستّينيات التي أسهمت مع الجامعة الأميركيّة في نشر جوّ من الانفتاح. أمّا الشيعة فهم حديثو العهد نسبيّاً في بيروت، نزحوا إليها منذ 50 سنة، وتطلّب انخراطهم وقتاً.
لكن يبقى السؤال: هل كُلّ من يقيم في بيروت هو بيروتي؟ وماذا عن المقيم فيها لكنه يشير دوماً إلى أصله الجنوبي أو الشمالي؟ اعتبر شوقي الدويهي أنّ هذا الأخير ليس بيروتياً. لمن بيروت إذاً؟ اتّفق المجتمعون على أنّه ليس هناك تعريف أحادي لهويّة سكّان بيروت. هي تبقى هذا المكان المتخيّل الذي يحقّ لأيّ شخص، يعترف بجميل المدينة عليه، أن يتوحّد فيها.
أمّا الإشكاليّة الثانية فتركّزت على صورة «أبو عبد» البيروتي والشخصيات الأخرى «الحاضرة في الوجدان الشعبي البيروتي حتى اللحظة» كالقبضاي والزّمكّ والغدع وغيرهم، والتحوير لبعض ما قامت عليه هذه الشخصيّات من مفاهيم وصور، سببه الإعلام خصوصاً. هكذا، ذكّرتنا هند صوفي بصورة «أبو عبد» الأولى: «شخصية مدينيّة بامتياز، دورها داخل الحارات كما المختار في القرى، لكن بالمفارقة، هي شخصيّة عفوية المنشأ، وتاريخيّتها تعود إلى صورة عنترة الأسطوريّة. قد نجد مرجعيتها في نظام الفتوة المتوارث داخل حارات المدن العربية. ونعني بالفتوة المروءة وغلبة العقل للشهوة، وتجنّب الرذائل». ورأى المحاضرون أنّ الإعلام شوّه هذه الصورة عبر قتل بنية الشخصيّة الأصلية لمصلحة صورتها الكاريكاتورية، وأضاف عبيدو باشا «نحن أمام فكرة ضمير إنساني لم تلبث أن انقادت في متاهات التبسيط والسذاجة اللبنانية». ومن علامات تدهور هذه الشخصيّة، أنّها كانت بدايةً تُعتبر لبنانية، ثمّ حُسِبت على طائفة ولاحقاً على مذهب.
إذاً، بسبب هذا التشويه للشخصيّة واللّهجة البيروتيّتين، خَلُصَت الندوة إلى أنّ التراث البيروتي ليس مصوناً. لذلك وعد نادر سراج بتنظيم ندوات عن الموضوع، وبجمع الأبحاث التي قُدمت خلال الندوة في كتاب يصدر قريباً.