أحد أعلام الأدب الجزائري يُطلق العنان لذكرياته أيّام الاستعمار، في «صرخة طرزان: الليل في قرية وهرانية» مجموعته القصصيّة الصادرة بالفرنسيّة عن «دار البرزخ»
ياسين تملالي
غوص في عالم طفولة بعيدة واستعادة روائحها في جوّ المهجر الكئيب: هكذا يمكن وصف «صرخة طرزان: الليل في قرية وهرانية» لمالك علولة، أحد أعلام الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية. المجموعة الصادرة في الجزائر عن «دار البرزخ»، أماطت اللثام عن إحدى مواهب علولة المغمورة: إنّها الكتابة القصصية، فهو هنا ليس بالشاعر الثائر، ولا بالناقد الذي كرّس كتاباته لتحليل استشراقية التصوير الفوتوغرافي الفرنسي وهو يمثّل الجزائريات كـ«شرقيات» (الحريم الكولونيالي).
ينغمس راوي «صرخة طرزان...» في عملية مضنية، باحثاً في الذاكرة عن بصمات عتيقة. يتحدث من موقعه في باريس وقد أدركه الهرم، فزاد من غرابة وجوده في هذه المدينة الباردة وألحّ عليه لتركيب شظايا حياته المتناثرة. يستسلم للذاكرة فيعود إلى ماضٍ سحيق، إلى الخمسينيات، في قرية من الغرب الجزائري العامرة بالمستعمرين الأوروبيين، ثم في وهران التي كانت هجرة أسرته إليها أول ارتطام له بغربة المدن الكبرى، ثم في باريس حيث لا تزال تصله أصداء مآسي بلاده. تحدّد القصة الأولى «يوم حفلة» ملامح «المكان الأول»: قرية من الإقليم الوهراني كانت مقسّمةً إلى جزءين: قسم حديث ونظيف للأوروبيين، وقسم بعيد أُلقي فيه مَن كانوا يُسَمَّّون «الأنديجان» (السكان الأصليون) أي الجزائريين. أما «الحفلة»، فكانت الإعلان عن عرض «طرزان الرجل القرد». فيلم تُمكن الجميع مشاهدته، لكن كلّ من موقعه: الكراسي الوثيرة لعائلات المستعمرين والأرضية العارية للأطفال «الأنديجان».
يحكي الراوي في القصة الثانية، عنوان المجموعة، عرض الفيلم وما تلاه من محاولات له ولأترابه لتقليد صرخة طرزان. كان هو وأصدقاؤه الأشقياء يرون في تقليد «الرجل القرد» ما يحرّرهم من عبء الوضع الكولونيالي. تتكوّن القصة الثالثة «طفولات غرائبية» من لوحات شبه فوتوغرافية تصوّر طفولة الراوي: قاعة الدراسة وأحد أشقياء البلدة مطلّاً من نافذتها الخارجية ومستفزاً المدرّس الأوروبي بأشنع الألفاظ، احتفالات الأوروبيين في الغابة المجاورة وتلصّص الأطفال الجزائريين على قصصهم الغرامية السريّة بموازاة حياتهم الزوجية. في القصة الرابعة، يغوص الراوي في ذكرى أبيه. ها هو في باريس أمام مرآته يستعد لحلاقة ذقنه. ينظر إلى وجهه فيستذكر وجه والده وطريقته في حمل الموسى. يطوّح به التأمل في العلاقة بين الآباء والأبناء عبر تيمات بسيطة كالحلاقة وما يرافقها من طقوس حميمة. ثم يعود الراوي في قصّة «مياه وهران» إلى الطفولة وانتقال عائلته إلى عاصمة الغرب الصاخبة. الوالد هنا لا ينطبق على صورة الرجل العطوف، بل رجل قذفت به الأقدار في حياة معقّدة، يعيش متأفّفاً من إحساسه بالتيه في المدينة الكبيرة. أمّا ذكرى وهران، فذكرى طعم ماء البحر الذي يغزو قنواتها، ليمضي الطفل صيفه في تخيّل ملاحم بحرية، أبطالها قراصنة وبحارة وجنيات من بنات الماء. وفي «إليكم الخط من وهران»، يعود بنا الراوي من ذكريات مدينته الأولى إلى مستقره في باريس. يحكي عن حياته المتقشفة، عن عمله الذي يؤمن له معيشته وتفرغه للكتابة. وفي صمت حجرته، يرن التلفون. ينصت فلا يسمع سوى حشرجات... وأخيراً يتكلّم مراسله الشبحي لينقل إليه «أتعس خبر سمعه في حياته». وتُختتم المجموعة بنص يتوارى فيه الراوي، فيتحدث علولة إلى قرائه سافر الوجه. ندرك أنّ كلّ القصص بيوغرافية، ونخمّن أنّ النبأ الذي تلقاه كان خبر اغتيال أخيه، المسرحي عبد القادر علولة، على يد مجموعة إسلامية.
وفي النص الختامي نفسه، يتساءل علولة: لماذا الفرنسية هي اللغة التي تحدث بها عن هذه المرحلة الغابرة من حياته؟ ويئن حنيناً إلى لغة مفقودة، لهجته الوهرانية التي ترابط في قلب فرنسيّته معلنةً حقها في التحكم بمخيّلته. تتوقف عملية لمّ الذكريات ليدوّي صوت الكاتب: «كل هذه النصوص مطبوعة بالبصمة الجينية نفسها. من أين أتت البصمة يا ترى، إن لم يكن من صدى مغامرة البحث عن تلك اللغة ـــ الشبح الحيّة في نفسي؟».