بيار أبي صعب«عندما قالت له «انزع السيجارة من فمك لكي تقبّلني»، نظر إليها طويلاً وقبّلها بعينيه». الأصدقاء في المدن البعيدة، يتذكّرونه دائماً على الشكل نفسه: منكوش الشعر، شارد النظرات، وعلى طرف شفته السفلى سيجارة غولواز أو جيتان، غير مشتعلة بالضرورة. عقب سيجارة عالق هنا من دهر. ويتخيّلون دائماً طاولة المقهى التي يجلس إليها «منذ دهر» أيضاً... منذ كانت بيروت مدينة المقاهي الأدبية، والحركات الثقافية، والتجارب الطليعية، والثورات الطلابية. عاصمة القضايا الكبرى. نعم بول شاوول هو ابن تلك المدينة ووريثها، لذا نتخيّله الآن متسلّلاً فوق الأرصفة القليلة التي بقيت لنا. ولا نستغرب أن يخصّص كتاباً كاملاً لهذه السيجارة التي عبرت معه الأزمنة: «دفتر سيجارة»، فيما يدور الكتاب الثاني «بلا أثر يذكر» (النهضة) حول ذلك المسرح العتيد المطلّ على العالم، أي المقهى.
«... وهكذا كمن يتراجع عن ظلاله ليتقدّم على ظلاله»، يبدو بول شاوول فجأة كما عرفناه. في تعاطيه المتقشّف مع العالم واللغة والأشياء. في تكثيف الانطباعات والأحاسيس، الوجوه والعناصر، الصور والتأملات، والأطياف البعيدة. شعريّة لا تخاف النثر، منه تنفذ غالباً إلى «البياض» القديم عينه: «تلك الغيمة، قبّعة فائضة ترفعها فجأةً وتحيّي بها المارة والنوافذ والهررة المشغولة بأكياس النفايات». مسرفٌ في استعادة الخسارات، «لا يعرف لماذا يستهويه أحياناً النظر إلى الأشياء من خلال دخان السيجارة»... يراقب انهيار العالم، عبور الزمن، تأكّله هو في مرايا محتشدة بالتفاصيل، تتسع لكل تواريخه: «أظافرك/ قضبانك: خساراتك: كلوروفيلك: نشيق منخارك: خلف حيطانك...». فلننسَ السياسة (قليلاً)، إنّه الشعر!