نعته النقّاد بـ«Benini المغربي» ومثله الأعلى مارتن سكورسيزي

يأخذنا كريم وعادل إلى قاع الدار البيضاء، حيث تتفاقم إحباطات جيل كامل من الشباب المغربي المهمّش. عنف وكحول وجنس وجريمة... وحلم الهجرة إيّاه. فيلم CasaNegra حقّق نجاحاً جماهيرياًَ ونقدياً، وبات ظاهرة اجتماعية مثيرة للنقاش وصلت إلى الصحافة العالميّة. إنّها تجربة راديكاليّة تحمل بصمات سينمائي كبير

عثمان تزغارت
يمثّل المنحى السوسيولوجي لازمةً لا يخلو منها أيّ موسم في السينما المغاربية، لكن قلّة هي الأفلام التي تتجاوز حدود «الواقعية التسجيلية» وتغوص في أعماق المسكوت عنه، اجتماعياً وسياسياً، لترافع باسم المهمّشين والمسحوقين الذين يناضلون لتحقيق مكان تحت الشمس. يتحول هذا النوع من الأفلام عادةً إلى «ظواهر اجتماعية» قائمة بحد ذاتها، بدل أن تكتفي بتصوير الوقائع الاجتماعية ورصدها. شهدنا ذلك مع «عمر قتلاتو» (مرزاق علواش/ الجزائر ــــ 1972)، و«حلفاوين، عصفور السطح» (فريد بوغدير/ تونس ــــ 1991)، ثم «علي زاوا، أمير الشوارع» (نبيل عيوش/ المغرب ــــ 2001)... وها هو السينمائي المغربي نور الدين لخماري يخوض تجربة مماثلة، في فيلمه الروائي الثاني «كازانيغرا» (الدار السوداء تضاد مع اسم العاصمة الاقتصاديّة المغربيّة: الدار البيضاء : كازابلانكا). يصوّر لخماري المغامرات الليلية لشابين مغربيين في عوالم المهمّشين، في الأحياء الفقيرة لمدينة الدار البيضاء. وإذا ببطلي الفيلم كريم وعادل اللذين يتقلّبان بين السرقات الصغيرة والمُتع المحرّمة وأحلام الهجرة، يتحوّلان إلى معادل رمزي لإحباطات جيل كامل من الشباب المغربي المهمّش.
حقّق «كازانيغرا» نجاحاً لم يقتصر على الإقبال الجماهيري الذي شهده في المغرب، ولا على الحفاوة النقدية التي حظي بها (ثلاث جوائز في «مهرجان دبي السينمائي»، وثلاث جوائز في «المهرجان الوطني المغربي للسينما» في طنجة). بل سرعان ما تحوّل إلى ظاهرة ضجّت بها أندية الحوار على الإنترنت، وتصدّرت أغلفة الصحف المغربية، بين معارض ومؤيد للنبرة الواقعية الفجّة التي اتّسم بها الشريط. وخصّصت له صحف عالمية مثل «لوموند» و«نيويورك تايمز» مكانة تجاوزت صفحاتها الفنية إلى الصفحات السياسية، بوصفه «ظاهرةً اجتماعيةً» تعكس انشغالات وهموم الجيل الجديد من الشباب المغربي. وكان لا بدّ ــــ كي يكتمل المشهد ــــ من دخول المتشددين الإسلاميين على الخط، للتنديد بـ«النبرة الوقحة» التي ينطوي عليها هذا الفيلم «الخادش للحياء». زعيم «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي المغربي، عبد الإله بنكيران، انتقد ما وصفه بـ«عنف هذا الفيلم وبذاءته»، معترفاً في الوقت ذاته بأنّه لم يشاهده بل سمع عنه! لكنّ ذلك لم يمنعه من اتهام الفيلم بأنّه «يندرج ضمن سلسلة أعمال تشجّع على الخلاعة و... الصهيونية»!
لكنّ نجاح هذا الفيلم لا يمكن تفسيره فقط بما أثاره من ضجة اجتماعية أو جدل سياسي، بل هو نجاح يستند أيضاً ــ وقبل أي شيء ــ إلى مقوّمات فنية قوية برهن من خلالها نور الدين لخماري عن حرفية عالية وسمات أسلوبية مميزة تنبئ بميلاد سينمائي كبير. هذا المخرج الشاب (44 سنة) الذي درس السينما في النرويج، لفت الأنظار منذ فيلمه القصير الأول «الصراع الصامت» The Silent Struggle (جائزة أفضل فيلم قصير في النرويج ــــ 1993)، لكنّه انتظر أكثر من عقد كي يحقّق فيلمه الروائي الأول «النظرة» ( 2005). رغم العروض الإنتاجية المتعدّدة التي تلقّاها، وخصوصاً في فرنسا حيث لفت أنظار الوسط السينمائي بفيلمه القصير الثالث Né sans ski aux pieds (1996).... لكنّ المضمون الإشكالي لسيناريو «النظرة»، المتعلق بالجوانب المسكوت عنها في بشاعات الاستعمار الفرنسي في المغرب، جعل خروج ذلك الفيلم إلى النور يتأخر سنوات طويلة.
رغم نجاح تجربته الأولى في السينما الروائيّة الطويلة، تردّد نور الدين لخماري طويلاً، قبل أن يُقدِم على خوض تجربة CasaNegra. إذ تخوّف من ردّ فعل الجمهور على النبرة الواقعية الفجّة للغة الشريط: «إذا كان الجمهور عندنا معتاداً تقبّل هذه النبرة الجريئة في أفلام باللغة الفرنسية أو الإنكليزية، فإنّ الأمر يصبح أكثر حساسيةً حين يتعلق بفيلم يتحدث العربية، بلهجة الشارع التي تسمّي الأشياء بمسمّياتها من دون أي تورية أو مواربة».
لكن لخماري كسب رهانه، فالفيلم لم يُثر أيّة ردود سلبية لدى الجمهور رغم نبرته الواقعية التي تلقّفت لغة الشارع، بكل ما تحمله من قوة وشاعرية ورشاقة ومن عنف وفجاجة أيضاً، لتسلّط الضوء بجرأة غير مسبوقة على الكثير من التابوهات الاجتماعية، من العنف والكحول والإجرام إلى التمزق الأسري والمثلية الجنسية.
لكن الميزة الأساسية لهذا الفيلم، رغم المرافعة الاجتماعية والسياسية الجريئة التي تضمّنها، تكمن في ابتعاده عن النبرة الخطابية المباشرة التي تُثقل غالباً على السينما المغاربية. أطلق نور الدين لخماري العنان لمخيّلته السينمائية الخصبة، مستلهماً عوالم فيلمه وشخوصه من مرجعيات سينمائية تعدّدت بين الرومانسية الملحمية لـ«تايتانيك» في بعض مشاهد جولات بطلي الفيلم كريم (عمر لطفي) وعادل (أنس الباز) في شوارع الدار البيضاء، على متن دراجتهما النارية، وروح الفكاهة الباروكية الفاقعة التي تذكّر بعوالم روبرتو بينيني. فيما تذكّر الشخصيات الغرائبية للمجرم دينامو ومساعده، بأقنعتهما المضحكة وغبائهما المفرط، ببعض أعمال تيم بورتن والأخوين كوين. أما زريريق (النجم الكوميدي محمد بنبراهيم) المجرم العدواني الذي لا تفارقه مطرقته الكهربائية، فيكاد يخيّل للمشاهد أنّه خرج للتوّ من أحد أفلام المافيا النيويوركية التي يشتهر بها مارتن سكورسيزي الذي يعتبره لخماري مثله الأعلى في السينما.

«مكارثية إسلامية» تكفّر السينما المغربية؟



لا تمثّل الهجمات على فيلم «كازانيغرا» حالة معزولة أو استثنائية، إذ ينظر السينمائيون المغاربة بقلق إلى حملة متفاقمة على الإبداع السينمائي، خصوصاً في ظل النجاح الجماهيري المتزايد لبعض الأفلام ذات المنحى الاجتماعي الجريء في السنوات الأخيرة (Marock، «العيون الجافة»...). ويذهب بعضهم إلى التحذير من «مكارثية إسلامية» جديدة!
وقبل أن يهدأ الجدل الذي رافق النجاح الجماهيري لفيلم «كازانيغرا»، ها هو فيلم مغربي آخر يثير زوابع من الانتقادات من المتشدّدين الإسلاميين. وقد طاولت تهم «الخلاعة والصهيونية» التي كالها زعيم حزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، ضدّ فيلم نور الدين لخماري، فيلماً مغربياً آخر هو «حجاب الحب». وهذا الأخير باكورة المخرج عزيز السالمي ويروي قصة حب فتاة محجّبة تنتهي بالحمل خارج إطار الزواج، بعدما غرّر بها حبيبها ووعدها بالارتباط.
بعد الحفاوة التي استُقبل بها هذا الفيلم في «مهرجان السينما الوطنية المغربية» في طنجة، حيث نال جائزة أفضل سيناريو، قاد الداعية المتشدد عبد الباري الزمزمي ــــ وهو رئيس جمعية تطلق على نفسها تسمية «الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في فقه النوازل» (!) ــــ حملةً إعلامية تدعو إلى مقاطعة هذا الفيلم ومنع عرضه في الصالات المغربية، بحجة أنّه «اختراق من الصهيونية لتمييع مجتمعنا، بالطعن في كرامة كل أسرة مسلمة وعفّة كل فتاة ترتدي الحجاب».
استغرب المخرج عزيز السالمي هذه الحملة، قائلاً إنّ ما عكسه في الفيلم هو واقع اجتماعي. فقد أراد تسليط الضوء على «ازدواجية ثقافية» يعاني منها المجتمع المغربي. ولفت المخرج إلى أنّه استخدم الحجاب كرمز للدلالة على التناقض بين ما هو «ظاهر» وما هو «خفي»، وازدواجية السلوك بين «الحياة السرية» و«الحياة العلنية»، مضيفاً أنه «أراد تصوير الفتاة المحجّبة في صورة إنسانية، بوصفها كائناً حيّاً لديه مشاعر وأحلام ورغبات جنسية ككل الناس»...
وعبّر العديد من السينمائيين المغاربة عن قلقهم حيال هذه الحملات التي تتّخذ طابع «ديكتاتورية فكرية تتعدّى دائرة النقد نحو المطالبة بالمنع وممارسة التخوين والاتهام بالصهينة». والملفت وفقاً لما تناقلته الصحف المغربية، أنّ الزمزمي، تماماً مثل بنكيران، لم يكلّف نفسه عناء مشاهدة الفيلم الذي يطالب بمنعه، مكتفياً بالقول «ليس شرطاً مشاهدته (الفيلم) للتعليق عليه، لأن كل من اتصلوا بي من إعلاميين سمعت منهم شورى واحدة، وهي أن الفيلم ركّز على فتاة محجّبة تعلقت بشخص حملت منه بطريقة غير شرعية»!