بيار أبي صعبكلاّ ليس «قدّيساًً»، بالمعنى المتعارف عليه. هناك أكثر من قدّيس يحمل اسم فالنتاين في تاريخ الكنيسة الكاثوليكيّة، ومعظمهم مات شهيداً (!)، لكن شفيع العشّاق، وقدّيسهم، ورسولهم، وسيّد عيدهم اليوم حول العالم، آت من الأسطورة القديمة... لا بدّ أن نرجع إلى القرن الرابع قبل الميلاد للاهتداء إلى الآثار الأولى لهذه الاحتفالات الطقوسيّة، الوثنيّة بامتياز، إذ تمجّد الخصوبة والأرض ومتع الجسد والحواس. على روزنامة أثينا يصادف هذا التاريخ ذكرى زواج الإله زوس من هيرا... وعند الرومان، كانت ليلة ١٤ إلى ١٥ شباط (فبراير) تعلن انطلاق مهرجانات الـ«لوبركال»، احتفالاً بـ Lupercus ربّ الخصوبة الذي كان يصوّر في جلد ماعز. ويحكى أن كهنته كانوا يذبحون أضحياتهم في هذا العيد، ثم يهرولون في الشوارع وأيديهم ملطخة بالدماء، يلمسون كل من يصادفونه، وتهرع إليهم النساء طلباً لنعمة الخصب.
خلال القرون الوسطى، يروى أنّ تلك الاحتفالات تحوّلت في أوروبا إلى مناسبة للخروج عن القيود الاجتماعيّة، بحثاً عن الحريّة القصوى، والاستسلام للرغبة المطلقة خلال كرنفالات متعويّة ماجنة كانت تشهدها زواريب المدينة وأزقتها. كان الحبّ الجسدي هو سيّد الاحتفال... ثم أخذ البعد الرومانسي، العاطفي، الروحاني مكانه مع السنوات، في إنكلترا وفرنسا وإيطاليا وغيرها. ازدادت القيود على المتعة. صار العشاق يتبادلون الرسائل والورود. وبعدها الشوكولاته. والملابس الداخليّة الحريريّة المرفّهة... وكل الهدايا التي يفرضها اليوم النمط الاستهلاكي السائد. يقال إن مليار بطاقة يتم تبادلها في مثل هذا اليوم، كلّ عام، في أرجاء العالم. حتّى صار العيد يتجاوز الحبّ إلى الصداقة في بلدان كثيرة، مثل أميركا. لقد سرقوا العيد من العشّاق.
ومن الأساطير والتأويلات حول هذا القديس الغامض، شفيع العشّاق، نفضّل تلك التي تتحدّث عن كاهن اسمه فالنتاين، كان يزوّج العشاق سرّاً، متجاوزاً قرار منع الزواج الذي فرضه الإمبراطور الروماني كلود. فهذا الأخير كان يعتبر أن الحبّ مرادف للخمول، لأنّه يقعد الرجال عن الحرب، ويحد من همّتهم، ويجعلهم يفضّلون البقاء في أحضان حبيباتهم بدلاً من المضيّ قدماً إلى ساحة الوغى. الحبّ ضدّ الحرب إذاً، الفكرة ليست بطّالة! والحبّ أداة تمرّد وعصيان على السلطة، الدينيّة والدنيويّة، على قوانين المجتمع والعشيرة. فعل بطولة سعياً إلى السعادة، على طريق الحريّة المطلقة. تقول الحكاية إن فالنتاين السعيد الذكر والتعيس الحظّ هذا، قبضَ عليه جند الإمبراطور في النهاية، وأغرم بابنة حارس السجن. وقبل أن يساق إلى الإعدام، ترك لها رسالة وداع من نوع خاص، ما زال يذكرها العشّاق إلى اليوم. لقد جمع أوراق الشجر على شكل قلب، وأضاف كلمتين أو ثلاثاً (حسب الترجمات!): «من فالنتينك»... وبعدها بسنوات طوّب الرجل قدّيساً لأنّه ضحّى بنفسه على مذبح الحب.
وها نحن، من قلب جحيمنا، وفي زحمة المآسي اليوميّة، نمدّ لساننا للموت المتربّص عند كل منعطف وفي كل مدينة عربيّة، نلوّح للشهداء والسجناء والمقهورين بوردة حمراء. نعتبره، عيدهم أيضاً، عيدنا باسم الحياة والحرية وسعادة آتية... نشرب نخب الباقين هنا في المعترك: كل عيد وأنتم بخير أيها العشّاق!