نادر فوز
استمرّ اجتماع التحرير هذا اليوم حتى ساعة متأخرة. لم يخرج أي من محرّري الجريدة من قاعة الاجتماعات. بدت الجريدة مدينة مهجورة، وساد الصمت أمام المداخلات التي تقدّم بها رئيس تحرير الصحافة، جوزف سماحة. لم أستطع تسجيل كل ما جرى، إلا أني كتبت عدداً من العبارات التي لفتتني. وهي عبارات أنقلها كما سجّلتها، لا كما قيلت، باستثناء بعضها التي استطعت تسجيلها حرفياً.
سُئل سماحة عمّا جرى في الخارج منذ ما يقارب السنتين. حتى أنّ بعضهم سأله عن سبب وزنه الزائد، أو تغييره لنظارتيه. بعد إجاباته ببسمات خجولة، انطلق سماحة للحديث الجدّي. توقّف مطوّلاً عند أحداث 7 أيار/ مايو 2008. قال إنّ ما حصل كان نتيجة حتميّة لسياستين متواجهتين: أولاً، تمادي تسلّط الحكومة وتوجّهها مباشرة لمواجهة حزب الله. وثانياً، شعور الحزب أنّ تملّك المشروع الأميركي للسلطة في لبنان، وصل إلى حدّ لم يعد محمولاً، وباتت أسرار المقاومة مهدّدة، ليربط الأمر بالأيام الأخيرة للإدارة الأميركية ودور حلفائها في المنطقة. تحدّث عن الضحايا الذين سقطوا، مشيراً إلى أنه في كل تجارب الصراعات الداخلية في لبنان، يكون هؤلاء من الفقراء. رأى سماحة اتفاق الدوحة باباً لتجاوز الفترة الزمنية الباقية قبل الانتخابات النيابية التي ستفرز واقعاً سياسياً مغايراً، مشدداً على أنّ الطرفين كانا ليخسرا سياسياً لو امتدت ظاهرة 7 أيار. إلا أنه عاد وأكد أنّ الأزمة لا يمكن تنتهي بتسوية، وفي حال حصول هذا الأمر، تكون هذه التسوية لفترة زمنية محدودة.
ثمّ تناول موضوع الديموقراطية التوافقية. أعاد الحديث عن التجربة اللبنانية منذ الخمسينيات، ليخلص إلى أنّ هذا النموذج من نظام التحاصص بين الطوائف، يولّد الأزمات مستنسخاً نفسه. وكرّر ما كتبه مرة في الصحيفة «كان كارل ماركس يقول إنّ بريطانيا هي البلد الذي يذهب فيه الصراع الطبقي إلى نهايته. فهل يمكن القول عن لبنان إنه البلد الذي يذهب فيه الصراع الطبقي حتى نهايته... الطائفية؟».
وعن نتائج «الدوحة»، أصرّ على رؤية الاستراتيجيا الدفاعية من الصورة الأشمل، وعاد فشدّد على ضرورة دراسة توجّه المجتمع الإسرائيلي وتحليله نحو أقصى اليمين، لا من خلال معادلات داخلية سخيفة متعلّقة بالتوازنات اللبنانية والحسابات الضيّقة. وحين وصل إلى موضوع المقاومة. بدا جذريّاً: «هاتوا دولة قبل أن تطالبوا بالمقاومة». شدّد على ضرورة الوقوف إلى جانب المقاومة، داعياً الشيوعيين واليساريين إلى تأدية دورهم في هذا المشروع، وإضافة النكهة الحمراء إليه التي تنتقل بين مواجهة الإسرائيليين، فطرح العلمانية والمدنية وتحقيق المساواة الاجتماعية...
راق هذا الحديث له، وتورّد وجهه؛ قال إن المرحلة الحالية أهون بكثير على الشيوعيين من مرحلة التسعينيات. انتهت وحدة الطوائف والمعاداة الجماعية لمشروع اليسار، وبات يمكن لليسار أن يخترق جدار الطائفية على اعتبار أنه انقسم إلى شطرين. وردّد ممازحاً «بس في مشكلة، إنو النقاش عند اليسار ما بيخلص». وقال إن الأزمة الاقتصادية يجب أن تفعّل دور اليسار وخطابه. أطال سماحة حديثه عن قانون الانتخاب. اتّهم القيّمين عليه بعزل اللبنانيين بعضهم عن بعض، وبتكريس مفهوم المناطقية الطائفية، مشككاً بقدرة هذا النظام على ترجمة التمثيل الصحيح. كما ترحّم على الإصلاحات التي تقدّم بها البعض ثم عاد للنغمة ذاتها: إعادة إنتاج الطبقة السياسية لنفسها، وإقصاء الأطراف الإصلاحية عن البرلمان. ووجّه نقده لقوى المعارضة، العاجزة حتى الساعة عن إنشاء مشروع واضح للانتخابات يتضمّن الإصلاحات التي وعدت بها.
وعن العلاقات مع سوريا، قال إنّ التوصل إلى التبادل الدبلوماسي خطوة مهمة بين البلدين، وأشار إلى أنّ تأخر سوريا في إعلان اسم سفيرها، ليس بهدف العرقلة، أو تمرير الوقت لموعد الانتخابات، بل لتوجيه رسالة سورية واضحة للجميع، في المنطقة وخارجها، أنّ النظام امتصّ الصدمات ولا يزال قادراً على أن يكون لاعباً لا بديل عنه في المنطقة.
ثم كانت محطة حول غزّة. فأعاد التأكيد على ما قاله في آب/ أغسطس 2006، «إسرائيل لا ترى سوى التصعيد في الأفق. سيكتشف العرب ذلك مجدداً، عندما يتوجهون إلى مجلس الأمن لإحياء عملية التسوية». وأشار إلى أنّ المقاومة في لبنان نجحت في نقل تجربتها إلى فلسطين، ولو أنّ النتيجة لم تكن مشابهة تماماً. وصبّ غضبه على الأداء العربي الرسمي، «بعد نعت عملية حزب الله في 12 تموز/ يوليو بالمغامرة، خاض الانحطاط العربي مواجهة مباشرة مع المقاومة في محاولات محاصرتها وقمعها». وأشار إلى دور «إدارة الصقور» في الأداء الإسرائيلي، «والأهم هو المعاقبة السياسية التي تلقّنها الجمهوريون في الانتخابات الرئاسية».
بعد ساعات، انسحب الرجل بهدوء. تجوّل قليلاً في غرف الصحيفة، وعاد ليدخل مكتبه. وبدورنا عدنا إلى مكاتبنا وانشغالاتنا. أذكر أنّه في ختام اللقاء، قال: «يا شباب مبروك الأربعين صفحة!».