أخيراً وليس آخراً في ضيافة نائلة كتّانةبيار أبي صعب
في المعرض الفوتوغرافي الذي تنظّمه نائلة كتّانة كونيغ تحت عنوان «أخيراً وليس آخراً، وِسادات»، ويستمرّ حتّى 7 آذار (مارس) المقبل، نعيد اكتشاف تجربة جيلبير الحاج المتعددة الآفاق، القائمة على مشاغل جماليّة متصلة بما يجري في العالم... تجربة قوامها البحث الدائم، الفكري والجمالي، عن التقنيّة واللغة والشكل والقالب والإطار والضوء وزاوية النظر... وغيرها من العناصر التي تحدّد علاقة الصورة بزمنها ومجتمعها ولحظتها الراهنة.
جيلبير الحاج (١٩٦٦) ابن زمنه بامتياز. كان في الرابعة عشرة، تلميذاً في باريس حين تأثر ببراساي وكارتييه ــــ بروسون وروبير دوانو وغيرهم من معلّمي المدرسة الواقعيّة. وجاءت صوره الأولى متأثرة بالنزعة الجماليّة الكلاسيكيّة بالأسود والأبيض. حين عاد إلى بيروت، احتك بالتشكيليين والنحاتين، وارتاد عالم المسرح، باحثاً لصورته عن أفق وهويّة. جاءت مرحلته الأولى مسكونة بالهواجس الجماليّة. تعامل مع الصورة كفضاء للأسلبة ومسرحة واستقصاء بصري وجمالي. استعمل عناصر المشهد كمادة تشكيليّة، حريصاً على التنميق في تركيب المشهد وإضاءته، وفي سعي العدسة إلى سبر أغوارهإلى تلك المرحلة ينتمي أقدم مشاريعه المشاركة في المعرض الحالي. سلسلة السهوب الصخريّة، في الجنوب الفرنسي، في مكان يعرف بـ Le Sentier des Douaniers (١٩٩٧). تعيد الكاميرا تشكيل الطبيعة الصامتة، تتعامل بشبق مع المادة الأوّليّة، تلامسها كما تداعب اليد جسداً عارياً، تقطّعها إلى خطوط وأشكال وانحناءات ومفاصل. الصور هنا بالأبيض والأسود الذي يختزن لون الزهر الأصلي لحجر الغرانيت. من تلك المرحلة أيضاً، وفي ختامها ربّما، يمكن أن نشير إلى مشروع آخر له بعنوان «ورود» (١٩٩٩) عرض إحدى صوره أخيراً في قصر الأونيسكو تحيّةً إلى مي غصوب (Continuum). لقد تعامل مع الوردة أو ورقاتها الغارقة في الأسود الداكن، بعدما عالجها بتقنيّة خاصة، لنقل «نحتها»، فبدت توحي بأشكال غريبة كقناع أفريقي مثلاً.
المشروع الثاني في معرض «أخيراً وليس آخراً، وِسادات»، يمكن اعتباره مرحلة انتقاليّة في مسيرة جيلبير الحاج. في Beauduc (٢٠٠٢)، دخلت الألوان إلى الصورة، لكنّها تبدو من زمن آخر، أوّل عهد السينما بالألوان. في الجنوب الفرنسي أيضاً، على شواطئ الكامارغ، زار «قرية» عشوائيّة استوطنها سكان الأمر الواقع (squatters) من فنّانين وهامشيين هم امتداد للحركات الاحتجاجيّة في السبعينيات. البيوت والعربات وفيلات الصفيح ا(أزيلت بعد التقاط الصور بأشهر)، تحوّلت مع جيلبير إلى مناظر «بيتوريسك». اشتغل الفنّان على ألوانه تاركاً لها أن تعبّر عن الواقع، بين زرقة السماء وبياض عربات الكارافان. «بودوك» مجموعة من المشاهد «الصامتة»، حسب تقنيّة الـ deadpan القائمة على التسلسل والتكرار والموضوعيّة. الكاميرا في مواجهة المنظر الخالي من أي حضور بشريّ. إنّه المنحى «الموضوعي» الذي اعتمده الفنّان، متأملاً «محايداً»، يفرّغ الكادر من المشاعر والانفعالات الرابضة خلف المشهد. أليست تلك مقاربته لعمارات الضاحيّة المتصدّعة بعد عدوان تمّوز، كما قدّمها في معرضه «موطن ـــ١» (٢٠٠٦)؟
عام ٢٠٠٦ كان حافلاً بالنسبة إلى جيلبير الحاج. والمشاريع الأربعة الباقية في المعرض الحالي تجد جذورها في تلك المرحلة المثقلة بالعنف والحيرة واليأس. بعدما صوّر أبنية الضاحية الجنوبيّة، وما تختزنه من رائحة الدمار والموت، التفت إلى الوجه الآخر للمدينة: بيروت الإعمار. من سطح عمارة مطلّة على مشروع أسواق بيروت، التقط محطات من تلك الورشة بالأسلوب البارد المحايد نفسه، وبالكاميرا التي تواجه موضوعها باستمرار.
ثلاثيّة «بيروت» (٢٠٠٦) تلك، تحاول أن تقول الوجه الآخر للحقيقة نفسها. تماماً كما فعل جيلبير حين حوّل حانة «بيبا» في الجمّيزة إلى استوديو تصوير. كان ذلك الصيف الملتهب في أوجه، والصبايا يشهرن الفتنة والغواية في مواجهة الخوف والعدوان. على كرسي البار نفسه، في إضاءة ثابتة، تعاقبت أرداف الصبايا، وكانت الكاميرا تلتقط صورة لطرف الـ «سترينغ» الذي يتجاوز السروال. سلسلة Strings، تشكّل محوراً أساسيّاً في شغل جيلبير الجديد: الفن الفوتوغرافي وسيلة لرصد ظواهر ثقافيّة وأنتروبولوجيّة، ومساءلة عادات وممارسات وطقوس اجتماعيّة. هكذا يكرّر حدّ الهوس تصوير ما نظنّه المشهد نفسه، كما في سلسلة بورتريهات ووجوه «الآن وهنا» (٢٠٠٥) التي عرضت في بيروت وبرلين. وكما فعل مع مشروع «فضاء للمدخّنين» (٢٠٠٨) الذي لم يعرض بعد.
ومن السترينغ إلى فتحات القمصان والبلوَز والفساتين النسائيّة التي يشرد فيها النظر. مشروع استفزازي آخر، لهذا المصوّر الذي يواجه زمنه ضاحكاً. لكنّه هذه المرّة استعمل الهاتف المحمول في التقاط صوره «المسروقة». سلسلة من «الصدور» المجهولة، التقطت في أماكن عامّة، في حركة استعادة وتكرار تطرح أسئلتها على هذا النمط السلوكي الجديد (الموبايل/ الكاميرا)، تلك التقنيّة التي كاد شيوعها يحوّل الناس إلى متلصّصين. عنوان المشروع يعطي فكرة عن خيارات صاحبه (Phone(ethics أو أخلاقيات التلفون.
وأخيراً مشروع «وسادات» الذي بدأه أيّام العدوان، لكنّه تطوّر في اتجاه مختلف حتّى ٢٠٠٨. ولعلّه يشكّل ذروة في مسيرة الحاج الذي يمضي قدماً على طريق الأسلبة والتكثيف. يعزل عنصراً أليفاً وحميماً من حياتنا اليوميّة (الوسادة)، في كادر ثابت مكرّر، تحت إضاءة مشغولة أيضاً، بحيث يحيط السواد بذلك الشيء الذي يوحي بالراحة والاسترخاء و... الحبّ. وسادات من كل الألوان، مخططة أو منقوشة بالزهور، لكلّ منها حكاية، ولكلّ منها اسم نسائي أيضاً. حبيبات افتراضيّات، من خلالهنّ يراقب الفنّان الناس والمشاعر، في قلب نمط استهلاكي لا يرحم.
ما يرصده ويصوّره جيلبير الحاج، ليس في النهاية إلا ميثولوجيا الزمن الراهن.


حتى ٧ آذار (مارس)، غاليري L'Ébéniste، فضاء كتّانة ــــ كونيغ، مركز جيفينور، بيروت ـ 738706/01
www.gilberthage.com