حكايات جدّتهما عن القبضايات والجنيّات، غذّت خيال منصور وعاصي الطفلين، ومنها صاغ الفنّانان لاحقاً روائع أثرت التراث الإنساني. عشق منصور حكايات العفاريت التي كان عاصي يرويها له في عليّة البيت وبقي يروي تلك الحكايا 83 عاماً، رغم أنّه بدأ حياته المهنيّة من مكانٍ آخر. إثر وفاة والده حنّا، انخرط منصور الشاب في سلك «بوليس بيروت العدلي»، وهو لا يزال في الـ 17 من عمره. قوانين البِذلة كانت تحظر على الشرطيّ مزاولة الفنّ، لكن الأمر لم يثنه عن متابعة رحلته مع الموسيقى التي بدأها طفلاً حين كان والده يعزف البزق في مطعمه في «الفوّار» في أنطلياس، حيث ولد منصور عام 1925.
وفي وقت كان الأهل يتوقعون أن يصبح عاصي شاعراً، توقّعوا لمنصور «أن يغدو قاطع طريق في أحسن الأحوال». لكنّ منصور أحبّ الشعر وبدأ أولى محاولاته الشعرية في الثامنة، فنشر في مجلّات أدبيّة وأسس مجلّة «الأغاني» لتُنافس مجلّة عاصي «الحرشاية». الوضع الماديّ الصعب للعائلة دفع منصور إلى العمل مع أخيه في قطاف الليمون، ومن ثمّ العمل في الشرطة. لكن سرعان ما تعرّف الأخوان إلى الكاهن بولس الأشقر في أنطلياس، فتعلّما النوتة والموسيقى الشرقيّة، وكانت هذه مدرستهما الحقيقيّة بعدما تنقّلا بين مدرسة عبرين أنطلياس ومدرسة فريد أبو فاضل ومدرسة كمال مكرزل ومدرسة اليسوعيّة في بكفيا.
استقال منصور من سلك الشرطة والتحق مع أخيه في صفٍّ لتعلّم الموسيقى الغربيّة، ثمّ بدآ إنتاجهما الفنيّ الفعليّ عام 1944 حين بُثّت أغانيهما على إذاعة الشرق الأدنى وإذاعة دمشق. بعدها راحا يخطوان نحو الشهرة منذ مهرجانات بعلبك 1957، بعدما انضمّت فيروز إليهما. قدّم الأخوان خطّهما الفنيّ الجديد في مسرحيّات كـ«أيّام فخر الدين» (1966) و«جبال الصوان» (1969) و«لولو» (1974) وثلاثة أفلام سينمائيّة كـ«سفر برلك» و«بيّاع الخواتم» و«بنت الحارس». امتزجت مؤلّّفات عاصي ومنصور ويروى عنهما أنّهما كانا لا يستطيعان أحياناً تحديد مَن فعل ماذا. وكان للحبّ مساحةٌ كبيرة في حياة منصور، إذ قال مرةً: «عرفتُ كثيرات لعبن دوراً في تحريك الإبداع في أعماقي»، وهذا كان حال زوجته الراحلة تيريز أبو جودة التي أنجب منها مروان وغدي وأسامة.
رغم الفراغ الذي أحدثه رحيل عاصي عام 1986، لم يتوقّف منصور عن العمل، وظهر اسمه منفرداً لأوّل مرّة في مسرحية «صيف 840» (1988)، ثمّ قدّم «الوصية» (1994)، و«آخر أيّام سقراط»(1998)، «المتنبي»(2001)، «ملوك الطوائف»(2003)، «حكم الرعيان»(2004)، وأخيراً مسرحيّة «عودة الفينيق» (2008). عمل منصور في مسرحيّاته الأخيرة مع أبنائه الثلاثة، إلى جانب مجموعة من الفنانين اللبنانيين كرفيق علي أحمد ورونزا وغسان صليبا وكارول سماحة ولطيفة... وقد قال مرّةً: «كتب علينا أن نعيش مسافةً زمنيّة محدّدة، لا نعرف مدّتها بالضبط، لذلك الأفضل أن نعيش بكل ما نملك من حياة وحب وأمل وإبداع». هكذا، عندما رحل الرحباني الآخر أمس في مستشفى أوتيل ديو، كان يضع النقطة النهائيّة في ملحمة عاشها تماماً كما يريد.