جاك ميسرين والتشي، رجال المافيا في نابولي والجيش السرّي الإيرلندي... يجمعهم الخروج على «الشرعيّة»، ويفرّقهم أسلوب المعالجة السينمائيّة
عثمان تزغارت
كل هذه الأفلام التي تستلهم سير «الخارجين على القانون» على أنواعهم، من المجرمين إلى الثوار (راجع الصفحة 18)، مختلفة تماماً في ما بينها، على المستوى الأسلوبي. سودربرغ ولانغمان اعتمدا في «تشي» و«ميسرين» قالب السينما الملحمية ذات النفس الإنساني. لكن اضطرارهما إلى طرح فيلميهما في الصالات على جزءين أضرّ كثيراً بذلك النفس الملحمي. الشعب رقم 1» الجزء الأول من «ميسرين»، جاء أقرب إلى أفلام الحركة والتشويق البوليسي. بينما كان الجزء الثاني «غريزة الموت» أكثر توفيقاً في رسم ملامح شخصية ميسرين الإشكالية.
والمأخذ ذاته على فيلم «تشي». فقد جاء الجزء الأول منه (الأرجنتيني) الذي تناول فترة الثورة الكوبية مغرقاً في التوثيقية الحرفية، ما جعله يبدو طويلاً ومملّاً. إذ لم يقدّم أي جديد يُذكر عن شخصية غيفارا، ما عدا المقطع المتعلق بزيارته إلى نيويورك عام 1964، حيث ألقى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خطابه المدوّي الشهير ضد مظالم السياسة الخارجية الأميركية. لكنّ الجزء الثاني الذي يحمل عنوان «التمرد» استطاع تدارك هذا النقص، فاتخذ منحى ملحمياً صوّر شخصية غيفارا بكل ما لها من تألّق وكاريزما، لكن دون الوقوع في فخ النظرة التمجيدية. إذ لم يغفل الفيلم إبراز النزعة التسلّطية والعصبية التي استبدّت بغيفارا تدريجاً حين بدأ الفشل يهدّد التمرد الذي قاده في بوليفيا، ما عجّل في سقوطه. وأسهم هذا المقطع الأخير من البورتريه عن غيفارا في منحه بُعداً إنسانياً مؤثراً كسر نمطية الصنم الإيديولوجي الذي ترسّخ في مخيّلة الملايين من محبّيه عبر العالم.
من جهته، اعتمد يولي إيدل في «عصابة بادر ـــــ مينهوف» مقاربةً صادمةً متعمّدة للضمير الجمعي الألماني. إذ ركّز على تصوير العنف اليساري الثوري بوصفه ردة فعل راديكالية لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا المتطلّع إلى «قتل الأب»، والتخلّص من إرثه الملوث بإثم النازية. كما أنّ الفيلم سلّط الضوء، في قالب إنساني رقيق، على «الثالوث العاطفي» الذي تشكّلت حوله نواة التنظيم وتأثّر به مسار قادته، والمتعلق بالعداوة الإيديولوجية التي نشأت على خلفية التنافس العاطفي للظفر بقلب إندرياس بادر. هذا التنافس الذي نشأ بين عشيقته الأولى التي كانت شريكته في تأسيس التنظيم، غودرون إنسلن، وغريمتها أولريك ماينهوف التي سرقت منها حب بادر ثم زعامة التنظيم إذ أصبح يحمل اسميهما («بادر ـــــ ماينهوف»). وقد أسهمت هذه الخلفية العاطفية في أنسنة قادة التنظيم وتحبيبهم للمشاهد، ما يفسّر الاحتجاجات التي أثارها الفيلم.
وإذا كان ماثيو غاروني وجان ـــــ ستيفان سوفير قد اعتمدا نبرة نضالية تقليدية للمرافعة ضد المافيا وضد ظاهرة «أطفال الحروب»، فإن ستيف ماكوين الآتي من عالم التشكيل، سلك في باكورته «الجوع» منحى تجريبياً استفاد فيه من تجربته التشكيلية لتطوير لغة سينمائية بصرية ومكثفة. ويتناول الشريط وقائع ما عُرف بـBlanket & No Wash Protest (إضراب الملبس والنظافة) الذي ابتكرته مجموعة مساجين «الجيش الجمهوري الإيرلندي» عام 1981، للحصول على صفة «المساجين السياسيين». وبعد قمع تلك الحركة الاحتجاجية، قام زعيم المجموعة بوبي ساندز بالإضراب عن الطعام حتى وفاته بعد 56 يوماً من المعاناة المريعة.
انطلق ماكوين من تلك القصة ليصوّر في قالب جمالي آسر ومريع في آن، تحوّلات وانكسارات الجسم البشري حين يتحوّل إلى أداة راديكالية للتمرد السياسي. ما جعل بعض النّقاد يعيب عليه نزعة جمالية وشكلانية مُغالية جعلت بعض مشاهد الشريط بالغة القسوة، بما يتنافى مع الكرامة الإنسانية. إذ رصدت كاميرته جسد بطل الفيلم (الممثل الإيرلندي مايكل فاسباندر) النحيف وهو يتضاءل ويذبل، يوماً بعد يوماً، حيث تناقص وزنه فعلياً من 73 إلى 56 كلغ!