نجونا من حرب إضافيّة... لا تقلقي الديك سيخلد للنوم
ماجدة السقا * مثل سمك السردين، اصطففنا كلنا في غرفة واحدة.
الأدوار العليا أقل أمناً من السفلى، أو هكذا فهمنا من تجارب الآخرين، ولذلك نزل أخي وعائلته للنوم عند أمي.
زلزال البيوت مخيف جداً.
أنا ووائل ننام على فرش ضيق على الأرض.
معاً، نتفرّج على الصور المخزونة في هاتفي المحمول، في محاولة لتجاهل أوركسترا الحرب الحية الآتية من الخارج. وفي خلال دقائق كان وائل يغط في سبات عميق، المحمول في يد وإصبع اليد الأخرى في فمه. إنّه يشبه الملائكة بعيونه نصف المغلقة وكأنه لا يريد أن تفوته لحظة استمتاع واحدة ــ إنه يعشق المحمول. ولكني لا أستطيع أن أتركه يلتقط صوراً طوال النهار كما يحلو له، لأنّ علي أن أقتصد في شحن البطارية.
في الخامسة صباحاً، كنت أغطّ في النوم. يرسم وائل على وجهي بأصابعه الصغيرة.
يلامس جبهتي برفق، ثم فمي.
ثم يبدأ في الهمس في أذني.
«أنا أهمس في أذنك لأنّي لا أريد إيقاظك».
«ماذا تقول؟ لم أسمعك؟»
يهمس لي «انتهت الحرب، واليوم يجب أن نخرج»
أتمتم «اتفقنا» ثم أستغرق في النوم مرةً أخرى.
وائل يقفز على ظهري: «أنت طائرة، هيا بنا نطِرْ لأعلى»
«يا وائل! أريد أن أنام»
«وأنا أود الذهاب إلى النادي»
«سنذهب عندما تنتهي الحرب»
«انتهت الحرب»
«لا، الحرب لم تنتهانظري خارج النافذة، اسمعي: لا شيء. انتهت الحرب ـ على الأقل لشراء بعض الكاز للدفايات ووقود للسيارة».
وائل لا يترك لي الخيار، أستيقظ، ويستمر في إيقاظ كل مَن في البيت، وعندما تصل الساعة إلى 5:30 صباحاً، يكون كل البيت في قمّة النشاط. وفي حوالى الثامنة، الشمس ساطعة والكهرباء موجودة. ولذلك يستحمّ وائل، ويهبط إلى الدور السفلي، متألّقاً في سترته الحمراء.
«هيا بنا، الآن».
«لا، الحرب لم تنته» تخرج الكلمات من فمي.
يرد وائل: «لا داعي إلى شراء أي شيء، هيا بنا نقُم بدورة بالسيارة حول المنزل»
«يا وائل، أرجوك أن تصدقني، من الخطر أن نخرج من البيت ولو لدورة واحدة. العب هنا».
بدأ بالبكاء، وأعتقد بأنّي سمعت صوت قلبه وهو ينكسر. فكل ما يريد هو الخروج من هذا البيت بعد 12 يوماً في داخله من دون الذهاب إلى أي مكان.
غضبت من وائل مرة أخرى. خرج إلى الحديقة واختار أن يلعب في المكان الذي حذّرت الأولاد منه بالتحديد: فأمام حديقتنا على الجانب الأيسر بناية سكنية قصفها الإسرائيليون من قبل، وكلنا نتوقع قصفاً أسوأ لهذه البناية في هذه المرة.
في خلال دقائق، من المفروض أن تبدأ 3 ساعات هدنة من القصف. إسرائيل أعلنت أنّها ستسمح بـ «ممر آمن» لدخول المساعدات الإنسانية. ولكني لا أستطيع التصديق.
«يا وائل، طلبت منك ألّا تلعب في هذا المكان بالتحديد»
«وأنا طلبت منك أن تأخذيني مشواراً»
أصرخ فيه: «ولكن الخروج خطير!»
يتجاهلني ويتقدم أكثر نحو المنطقة التي أريد منه أن يبتعد عنها.
في وسط هذا الحوار المحبط، تصل ديما ابنة أختي من منزلهم، وهو يبعد مسافة منزلين من منزلنا. (كنا قد فتحنا «ممر الحديقة» بين المنزلين منذ مدة طويلة، يخترق حوش الجيران، حتى نستطيع التزاور من دون استخدام الطريق العام في الظروف المماثلة لتلك التي نمر بها الآن).
ديما وعمرها 9 سنوات، استحمّت هي الأخرى اليوم. جاءت تجلس بالقرب مني لتستدفئ بالشمس.
أقوم وأدخل إلى المنزل للحظة قصيرة.
ويلحق بي وائل.
فجأةً، انفجار ضخم.
طائرات سوداء في كل مكان.
تغطي السماء.
أكثر من اثنتين.
أكثر من ثلاث.
على الأقل نصف دستة.
صوت مرعب.
ديما في الخارج تصرخ غير قادرة على الحركة.
وحدها في الحديقة.
حولنا في كل مكان في الحي، الأطفال يبدأون البكاء.
وائل يتشبث بسروالي، وهو يمصّ إصبعه.
أحمله وأعطيه لأمه.
أقفز السلالم الستة.
وأصل الى ديما.
ترتعد.
وساقاها لا تتحركان.
تصرخ وقلبها يكاد يخرج من فمها.
أحاول احتضانها، ولكن جسمها متيبس.
ساقاها ترتجفان بعنف.
والطائرات لا تزال في السماء.
وائل يعلن للجميع: «لا أريد الخروج اليوم»
أحمل ديما إلى أمها.
أشعر بكل نبضة من نبضات قلبها.
تدفن رأسها في رقبتي.
«إهدئي يا ديما،
لقد ذهبوا.
لم يضربوا أحداً.
«كان مجرد استعراض جوي»
هذه المرة لم أكن أكذب. ولكن الحقيقة لم تعد ذات أهمية».

10 كانون الثاني (يناير) 2009
المنطق هو مفتاحي لهذا اليوم.
أريد أن أعتذر لكل موسيقيّي العالم لأني وصفت أصوات القصف بالأوركسترا.
بعد ليلة لا تطاق من قصف الدبابات وقصف طائرات الـ F16 وربما طائرات الأباتشي أيضاً، والطائرات الآلية إضافةً إلى أكثر العناصر إثارة للرعب وهي رائحة غاز الفوسفور المتسرب إلى أطراف منطقتنا.
اليوم أريد الاعتذار لكل الموسيقيين.
صوت الحرب مرعب وقبيح.
اليوم لن أمزح.
اليوم سأفكّر في المنطق وسأتكلم بالمنطق.
لا يوجد ما يكفي من الطعام في البيت.
الأطفال مخنوقون، ويريدون الخروج من هذا المعتقل.
إنها لن تنتهي اليوم.
وربما تستمر لفترة طويلة.
الاحتياجات تتزايد على كل المستويات ومن كل الاتجاهات.
إذاً، فأفضل تصرف هو الإنجاز.
لا يوجد مكان آمن في قطاع غزة.
فراشي ليس آمناً،
وبالتالي فالسوق أيضاً ليس آمناً.
ولكن السوق قد يكون أكثر أماناً من فراشي، أو على الأقل مثل فراشي.
ولذلك أستيقظ مبكراً.
أنادي الأطفال: «هيا بنا سنذهب إلى سوق الخضروات»
يصرخ أرسلان ذو الـ5 أعوام فرحاً: «هل انتهت الحرب؟»
«لا، ولكن سيكون هناك «وقف لإطلاق النار» و«ممر آمن» من الساعة الواحدة حتى الثالثة بعد الظهر».
وائل يسأل أختي نجاة «هل الساعة الواحدة الآن؟» ما معنى وقف إطلاق النار؟».
«هل الممر الآمن مثل الممر الذي يؤدي إلى الحمام في بيتنا؟»
نجاة منهكة. لم تنم لليلتين متتاليتين. ولكنها تنظر إلى وائل للحظة ثم تنفجر ضاحكة: «تقريباً... إنها المجاري نفسها»
ألتفت لارسلان سريعاً: «إنها الثامنة صباحاً الآن، هيا بنا»
من وجهة نظري الذهاب قبل وقف إطلاق النار أكثر أمناً لأني لا أصدّق أنّه سيكون هناك «وقف لإطلاق النار» أو بتعبير أدقّ لن يحترمه أحد.
تلتقي عيناي عيني أرسلان فأقول له: «أُنظر، يبدو أنّ هناك حركة في الشارع، هيا، سنذهب الآن».
لم أرَ في حياتي الأطفال بمثل هذه السعادة. لم ينتظروني حتى أخرج السيارة إلى الطريق. مثل العصافير وهي تهرب من القفص، يغنّون ويرقصون على عتبة البيت.

المرأة

امرأة في الطريق تطلب مني الركوب لأوصلها.
«جئتُ لأنهم يوزعون الخضرة على الفقراء.
«أنا لا أسكن في مدرسة من مدارس الأونروا، أنا أسكن مع عائلة أختي. لا يسمع عنّا أحد.
«لسنا مسجّلين في قوائم وكالة الغوث لأنّنا لسنا لاجئين، ولذلك لا أحد يريد مساعدتنا.
«هناك رجل طيب من جيرانكم أخذ مني بطاقة هويّتي أمس، واليوم ردّها لي وأعطاني بعض الخضروات. لا أعرف ما يمكنني أن أصنع بها، فلا خشب لدينا ولا وقود ولا كهرباء. حتى الماء انقطع عنّا منذ أربعة أيام»
أنظر للمرأة في مرآة السائق: «ربما أمكنك بيعها وشراء معلبات بثمنها»
«من سيشتريها؟»
«أنا ذاهبة إلى السوق، تعالي معنا».
تنظر إلى خارج السيارة وتحدث نفسها: «معك حق، سأبيعها وأشتري حليباً للأطفال وبعض الكاز».

السوق

قرّرت ألّا أنظر إلا إلى الأمام أو في مرآة السائق.
لا أريد أن أرى أي شيء حولي.
أنا أحبّ خان يونس.
لا أستطيع القيام بأي شيء من أجل خان يونس إلا الانتظار والتشبث بالحياة، علني أستطيع أن أقدّم إليها شيئاً غداً.
في منتصف الطريق إلى السوق. نحن السيارة الوحيدة السائرة.
وائل يضحك ويقول لأرسلان أن ينظر في اتجاه الرجل الذي مررنا أمامه.
«أنظر، إنّه يختبئ خلف الباب ويتلصّص. ولكني رأيته».
«أنظر إلى تلك المرأة أيضاً! رأيتها!»
«تختبئ هي الأخرى وراء الباب وتختلس النظر...»
إرسلان ينظر من الجهة الأخرى من الطريق. يصرخ: «أنظر حضانتنا! لقد دمّروا المبنى الملاصق للحديقة!»
ماجد البالغ 6 سنوات يسأل «من صنع هذا؟»
أرد عليه «الطائرة»
«أعرف ذلك، ولكن من يقود الطائرة؟»
أنظر للمرأة وأقول: «تستطيعين بيع خضرواتك هنا».
ماجد يعيد سؤاله: «من قام بهذا التدمير؟»
أنظر إليه وأقول: «الإسرائيليون. لكن لا تسأل من هم الآن لأنك إذا نظرت أمامك فسترى المكان الذي سنشتري منه احتياجاتنا».
كان هناك سيارة نقل ضخمة توزع طحين القمح على الناس.
جلسنا ننتظر حتى تحصل بعض العائلات على حصّتها ثم يجلسون في الشمس ليبيعوا نصف حصتهم.
امرأة متقدمة في السن كان تجلس وقد أخفت وجهها. توجهت إليها وسألتها إذا كانت تود أن تبيعني نصف حصتها.
«نعم، أرجوك، فأنا أريد العودة بأسرع ما يمكن. قبل أن ينتبه أولادي إلى أني أتيت الى هنا. سيغضبون مني. لقد أتيت لأنه لم يعد هناك ما يؤكل في البيت. في منزلنا 12 طفلاً يجب إطعامهم ثلاث مرات في اليوم».
سألتها لماذا تبيع حصتها من الدقيق إذا كان الوضع بهذا السوء في بيتها.
«لأنّنا نحصل على كيسين من وكالة اللاجئين، سنستخدم كيساً واحداً ونشتري خضروات بثمن الآخر».
« إذاً ما ثمن كيس الدقيق؟»
«180 شيقلاً»
«لماذا؟ كان ثمنه 90؟»
«كل الناس في السوق يبيعونها بهذا السعر»
«اتفقنا، أعطيني إياه»
يساعدني عدد من الشباب على تحميل كيس الدقيق في سيارتي.
عندما أدير محرّك السيارة تسألني ديما: «لماذا تشترين الدقيق؟ الكيس مكتوب عليه ليس للبيع»
أرد عليها ضاحكة: «أنا اشتريته ولن أبيعه، لأنه ليس للبيع».
«يا ديما هل تتذكريا إلى ماذا نحتاج في البيت؟»
تنظر ديما إلى الورقة الصغيرة التي كتبت عليها أمي قائمة الاحتياجات.
«لا نزال نحتاج إلى كل شيء، أنت لم تشتري إلا شيئاً واحداً حتى الآن».
يتطوع إرسلان «سكر، جدتي قالت «لا تنسوا السكر»
نبحث عن السكر ولكننا لا نجد إلا خضروات في كل مكان.
ولذلك نشتري كل ما نفضله منها.
ثم نشتري أيضاً ما لا نفضله، من باب الاحتياط.
ثم نعود بالسيارة في اتجاه البيت. عيناي لا تنظران إلا إلى الأمامأسمع وائل وارسلان وديما وماجد يلعبون لعبتهم الجديدة: «أرى شيئاً جديداً»
لست مستعدة لأن أنظر.
ثم يبدأ قصف خان يونس.
مكان قريب يقصف، ولكنه بعيد.
أقود بسرعة عابرة في الطريق الرئيسي للسوق ـ هذا الطريق لم أستطع القيادة فيه خلال العشرين عاماً الماضية بسبب ازدحامه الدائم بالباعة والناس لدرجة الاختناق.
اليوم أستطيع أن أمرّ به بالسيارة بل وأن أُسرع كما يحلو لي.
إنّه مقفر تماماً
العودة للمنزل
نصل إلى المنزل، والكل سعيد.
أخيراً، نجحنا في اصطياد بعض الدقيق، وهو الأهم.
يدخل وائل المنزل ويقدم تقريراً إلى أمي:
أحضرنا الدقيق.
ولكن لم نجد السكر.
بائع الألعاب مغلق محلّه.
السوبرماركت مغلق.
المرأة التي تبيع الدقيق لا تملك أي شوكولاتة
ولا تبيع أي طائرات ولا سيارات.
وتخفي وجهها.
لا تريد أن نعرفها.
يعلو رنين الهاتف.
وائل يجري ويرد.
«أهلاً، من المتحدث؟»
يسكت للحظة، ثم: «لا، لا يوجد عندنا أي...»
لحظات من الصمت.
«لكنّنا نحتاج إلى سكر».
«وأنا أريد سيارة وطائرة بجهاز التحكم عن بعد»
أندفع وأختطف سمّاعة التلفون الآخر. لقد خرج هذا الطفل عن السيطرة. يجب أن يتوقف وائل عن طلب الهدايا من أصدقائي كلما اتّصلوا بنا.

11 كانون الثاني (يناير) 2009
«ما الذي أصاب الديك عندكم؟» تسألني صديقتي عبر الهاتف.
«إنّها الـ9 مساءً، وهو يؤذن كأننا الفجر»
أشرح لها «إنّه يعاني فارق التوقيت»
«لم ينم الديك طوال الليل بسبب توهّج الانفجارات».
«كما أن الدجاجات جائعة لأننا لم نجد حبوباً في السوق لإطعامها».
«وطائرات الأباتشي أضاءت سماء كل مدينة خان يونس بلهيبها».
«لهذا يعتقد الديك أنّه في الصباح».
أطمئنها: «ولكن لا تقلقي، سيعود للنوم».


* ناشطة في «رابطة الثقافة والفكر الحر» في خان يونس

هجرت منزلي في شمال غزة بعد بدء الغارات. وعدت إليه منذ أيام، فقضيت ليلة من ليالي الحرب المفزعة. عند الصباح التقطت من نافذتي هذه الصور. وقررت المغادرة مع زوجتي وطفلي. غادرنا الساعة الثانية والنصف ظهراً. ثم هاتفنا جارنا العجوز قائلاً إن قذيفة دبابة أصابت بيتي مباشرة من أعلاه محدثةً فجوة كبيرة في السقف وأضراراً مادية جسيمة. كنا محظوظين جداً فالجميع بخير والحمد لله. أنا في وسط غزة الصغيرة التي تسمعك أي حدث، في أي منطقة منها، بسهولة. إن شاء الله سأوافيك بنص وصور حيثما أستقر، وينتهي هذا الشلال الدموي المرعب
محمد مسلّم
  • جنى طرابلسي ــ لبنان

    جنى طرابلسي ــ لبنان