بيار أبي صعباحتفالات الوداع لها دائماً طعم المرارة، لكن الغصّة بعد ظهر اليوم ستكون أكبر. سيخسر شارع بلس، وأرصفة الجامعة الأميركيّة، وستخسر بيروت، معْلَماً من معالم الذاكرة الثقافيّة لمدينة لا تتوقّف عن تغيير جلدها، ومقايضة تاريخها العريق براهن غير محدد الملامح. إنّه اللقاء الأخير في «مكتبة رأس بيروت» (1949 ــــ 2008) التي لن تتمكّن من إطفاء شمعتها الستين... المعاول لم تمهلها أشهراً إضافيّة في بلد الخدمات والاستثمارات العقاريّة. على أنقاضها ينتصب قريباً واحد من تلك الأبراج التي تليق بالمستقبل. «كاباريه العرب» يواصل إحكام قبضته على مدينة ظنّت نفسها يوماً منارة العرب ومختبر حداثتهم. لا أحد يمكنه أن يوقف عجلة التطوّر. السؤال فقط: ماذا ستطحن أيضاً، وكم ستطحن، تلك العجلة على طريقها؟
كنتَ إذا سألت حولك أين أجد هذا الكتاب أو تلك المجلّة، يجيبك أوّل السامعين مؤنّباً: ولو؟ مكتبة رأس بيروت! ألا تعرف فاديا جحا؟ بدأت موظفة هنا أوائل السبعينيات، تحت إدارة والدها شفيق جحا وعبد الأحد بركات، أيام كانت الكتب تعد بمستقبل من نوع آخر. صارت أشهر «مكتبجيّة» في بيروت. ترعى كتبها كما يرعى المرء أبناءه، وتحكي عنها بشغف. تعرف قصّة كل كتاب، وشبكة العلاقات المتشعّبة التي تربطه بكتب أخرى وحكايات أخرى. يعني باختصار تلك الأمور التي فاتت موضتها. اليوم يقوم بها الـ «براوزر» وحده بـ «كبسة فأرة»... من دون جميل أحد!
عند الرابعة تنتظركم فاديا، للمرّة الأخيرة في شارع بلس. لن تكون الرفوف مزدحمة بالكتب كسابق عهدها، لكن المكتبجيّة هنا. شدّوا على يد سيّدة المكان بقوّة. رددوا بصوت واحد، لكن بنبرات مختلفة: «مكتبة رأس بيروت، إلى اللقاء».