نَفَس شاعري وساخر ينعش السينما الجزائريةعثمان تزغارت
في باكورته السينمائية «مسخرة» (Mascarade) يقف المخرج والممثل الجزائري إلياس سالم في الوسط، بين سينما مواطنه الأشهر محمد لخضر حامينا ذات النفس الشاعري الملحمي، وعوالم البوسني أمير كوستوريكا ـــ مثله الأعلى سينمائياً ــــ حيث تتزاوج روح الفكاهة السوداء بالمواقف والمقالب العبثية الفاقعة. بهذه الخلطة، نجح سالم في تحقيق فيلم يمثّل بلا منازع مفاجأة الموسم في السينما العربية، إن على الصعيد النقدي أو على مستوى شباك التذاكر. بعد إعلان ترشيحه لأوسكار أفضل فيلم أجنبي الشهر الماضي، ها هو يحصد جائزة أفضل فيلم في مسابقة «المهر» للأفلام العربية خلال «مهرجان دبي السينمائي» الأخير. وفي الوقت ذاته، بعد أقل من أسبوعين على طرحه في الصالات الفرنسية، استطاع شقّ طريقه إلى صدارة شباك التذاكر، من دون أي خطّة دعائية، حتى إن صالات UGC الفرنسيّة صنّفته بـ«اكتشاف الموسم السينمائي في فرنسا».
عرفنا إلياس سالم ممثّلاً في أفلام كـ«ميونيخ» للأميركي ستيفن سبيلبرغ، و«قضية بن بركة» للفرنسي جان بيار سينابي، و Délice Paloma للجزائري نذير مخناش. وها هو الممثّل المنتقل إلى عالم الإخراج، يوقظ السينما الجزائرية من السبات العميق الذي غرقت فيه منذ منتصف التسعينيات. فقد استُقبل «مسخرة» لدى عرضه في الصالات الجزائرية بإقبال شعبي لم يعرفه أي فيلم محلي منذ أكثر من ربع قرنإضافةً إلى نجاحه الشعبي، يمثّل الشريط منعطفاً على الصعيد الأسلوبي، من شأنه التأسيس لـ«سينما جزائرية بلا صراخ»، بعيداً عن النبرة النضالية والشعارات. يذكّرنا هذا المنعطف بالنقلة التي أحدثتها باكورة مرزاق علواش «عمر قتلاتو» في بداية السبعينيّات. يومها، استطاع علواش أن يعلن قطيعة جذرية مع «الواقعية الثورية» التي أطبقت على سينما بلاده، جاعلةً منها أسيرة النظرة التمجيدية لإرث حرب التحرير. في السياق نفسه، يأتي «مسخرة» ليمسك بنبض الراهن الجزائري، ويصوّر معاناة مجتمع يصارع للنهوض من أتون حرب أهلية مدمّرة. لكن يفعل ذلك بعيداً عن النبرة التسجيلية والخطابية التي عادت لتلقي بظلالها على الإنتاج السينمائي والأدبي عموماً، في بلد المليون شهيد، منذ أن وضعت «حرب الجزائر الثانية» أوزارها في أواخر التسعينيات.
تدور أحداث «مسخرة» في قرية معزولة من قرى الريف الجزائري. في ذلك الجوّ الريفي، لا شيء يكسر رتابة الحياة إلّا سيارات الليموزين السوداء التابعة لـ«السيد الكولونيل»، التي تعبر القرية دورياً بسرعة جنونية، فتثير حولها زوابع كثيفة من الغبار والحقد الدفين المتراكم في نفوس سكانها المنسيين والمحرومين. فجأة، تنقلب حياة القرية جذرياً، حين تنتشر إشاعة غريبة مفادها أنّ ثرياً أوسترالياً اسمه وليام فان كوتن قرّر الزواج بإحدى بنات القرية. هذا الخبر يثير حماسة السكان، لاعتقادهم بأنّ زيجة مثل هذه قد تضع حدّاً للتهميش المسلّط عليهم من أصحاب سيارات الليموزين السوداء. لكنّ المشكلة أنّ ذلك الزواج ليس سوى «مسخرة» (مزحة) أطلقها منير (يؤدّي دوره إلياس سالم نفسه)، انتقاماً من سكان القرية الذين يسخرون باستمرار من شقيقته ريم المصابة بمرض نادر يُعرف علميّاً بـ Narcolepsie. هذا المرض يجعل ريم تنام لا إرادياً وبصورة فجائية، في أي مكان وأيّ لحظة، مهما كان الموقف محرجاً أو غير لائق.
تلك الشائعة كانت محاولة من منير لتغيير نظرة سكان القرية تجاه شقيقته، من خلال الزعم أنّ رجل الأعمال الأوسترالي تقدّم لخطبتها. لكن الشائعة سرعان ما بدأت تكبر مثل كرة الثلج، بعدما تلقّفها سكان القرية، ليضيف إليها كل واحد منهم تفاصيل جديدة يزعم أنها بلغته من طريق شهود عيان. من خلال هذه القصة يقدّم الفيلم نظرة تشريحية ساخرة وقاسية إلى الراهن الجزائري. لكنّ هذا النقد جاء مغلّفاً بقالب فنّي آسر، يتّسم بنَفَس شاعري وروح ملحمية فيها تأثيرات واضحة من سينما الجزائري محمد لخضر حامينا («وقائع سنوات الجمر»، «الصورة الأخيرة») والتونسي نوري بوزيد («ريح السدّ»، «صفائح الذهب»). وتجمع بوزيد بإلياس سالم أيضاً النزعة النسويّة Féministe التي تمنح لشخوصهما المؤنّثة قوةً وعمقاً مميّزين.
أما ما شدّ انتباه الجمهور الأوروبي في هذا الفيلم، فكان تأثّر مخرجه الواضح بأمير كوستوريكا. صحيح أنّ رمال الصحراء الجزائرية حلّت مكان ثلوج يوغوسلافيا، إلا أنّ ألاعيب «الكولونيلات» أصحاب سيارات اللميوزين السوداء، والطباع الفاقعة لشخوص «المسخرة» ذات الروح الغجرية المحمّلة الكثير من الألم والشجن والتمرد، تبدو كأنّها خرجت من مخيلة المعلّم البوسني الكبير. لا يعترف إلياس سالم بتأثره بصاحب Underground فحسب، بل يرى أنّ أكبر إطراء وأفضل جائزة كان يحلم بالحصول عليها مقارنة الصحف الفرنسية عمله هذا بأعمال كوستوريكا.