سوء تقدير؟ رسالة سياسية؟ غياب طوعي؟ لا يهمّ. الأكيد أنّ خطأً مهنياً وأخلاقياً وقعت فيه بعض الشاشات العربية واللبنانية حين قرّرت الانسحاب من الساحة وعدم تغطية العدوان
صباح أيوب
مجازر مصوّرة على مدى يومين. هكذا كانت حال المشهد الإعلامي العربي والعالمي منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزّة صباح أوّل من أمس. إذ عجزت الكاميرات عن تفادي كمية الجثث المتفحّمة والدماء السائلة كالأنهار في كل مكان، فجاءت الصورة قاسية بقدر وحشية الحدث، والعنف أمراً واقعاً لم يكن على المحطات التلفزيونية سوى مواكبته. لم تخترع الشاشات شيئاً، فـ«المواد» كانت جاهزة والمشهد في تصاعد مستمر: غليانٌ في كل الساحات. حتى التعاطف لم يكن مطلوباً. نقل الصورة فقط كان كافياً. لكن رغم كبر الحدث وامتداده، اختارت بعض المحطات... تغييبه. شاشات عربية ولبنانية قررت أن تتخذ موقفاً فانسحبت، ووقعت في خطأ مهني ــــ أخلاقي تُحاسَب عليه من جانب المشاهدين. هكذا وفي سابقة مخيفة في تاريخ التغطيات الإعلامية، سقط حدث عالمي ضخم من على الشاشات العربية: سوء تقدير؟ رسالة سياسية؟ غياب طوعي؟ لا يهمّ، النتيجة تجاهل الحدث الأبرز عربياً وعالمياً في اليومين الماضيين. بعض المحطّات اللبنانيّة والعربيّة دخل في غيبوبة طوعيّة، أو بدا بوقاً في خدمة أنظمة سياسية متواطئة.
LBC وOTV و«المستقبل» (لبنانياً) «العربية»، «المصرية»، «الأردنية»، «دبي»، «إم بي سي»، «أبو ظبي»، «السعودية» (عربياً)، أصرت على التغيّب والتغييب فتابعت برامجها المعتادة من دون أي تعديل: LBC فضلت أن تبقي على أجواء الميلاد الهادئة، بدلاً من تعكير صفو عطلة المشاهدين والاستغناء عن كمية من الإعلانات، بالتركيز على حدث... فلسطيني! اهتمّت المؤسسة اللبنانيّة للإرسال، في اليومين الماضيين، بمباريات كرة السلة، والطبخ، والأبراج، وأغاني الميلاد فقط. أما الـOTV فعملت وفق أولوياتها: أخبار نشاطات التيار الوطني الحرّ والنائب ميشال عون، لكن أحداً في إدارتها لم يتساءل: ماذا يحدث حولنا في العالم؟ هكذا لم يحظَ العدوان الدموى المتواصل على غزّة باهتمام المحطة التي فتحت هواءها لنقل وقائع «اللقاء الوطني المسيحي» في البترون ونشاطات عون... من جهتها، رأت قناة «المستقبل» الأرضية أنّ تخصيص الهواء المباشر لنقل مباريات كرة السلّة من دبي في عزّ العدوان الإسرائيلي هو أمر طبيعي... لكن هذا النقل تضمن توجيه تحية على الهواء لضحايا غزة... بكل طبيعيّة وراحة ضمير.
فضائياً، وبغض النظر عن باقة المحطات الخليجية التي ولدت على الساحة الإعلامية ميتة في الأصل، وتُمعن في تعميم سياسة تخدير إعلامية استهلاكية بامتياز، سُجّلت ملاحظتان على المشهد الفضائي. «العربية» حاولت جاهدة ألا تغيب عن الحدث، حفظاً لماء الوجه المهني، لكنّ اهتمامها بأخبار أسعار النفط والاستثمارات وتحليل ارتدادات الأزمة المالية أكثر من المجازر الفلسطينية كان جلياً. وفي اليوم الأول من العدوان الإسرائيلي، تفوّقت الـ «سي إن إن» الأميركية على «العربية» في تغطية أحداث غزّة مساحةً ومواكبةً آنية. أما الملاحظة الأسيّة فهي لأهل الدار أنفسهم: محطة «فلسطين» التي تحدّثت عن تلك الكارثة الوطنيّة في مقدمة نشراتها الأخبارية، كمن ينقل وقائع كارثة طبيعية في بلاد السند، فيما أخبار الرئيس محمود عباس تحتل الجزء الأكبر من النشرات الإخبارية.
وفي المقابل جنّد هواء محطات أخرى ومراسلوها، كـ«الجديد» و«أخبار المستقبل» و«المنار» و الفضائية السورية و«الجزيرة» الفضائية التي جاء أداؤها المهني على قدر مسؤوليتها الأخلاقية تجاه حدث ضخم قد يغيّر المعادلات الإقليمية. وقد توزّعت شاشات تلك المحطات (ولا سيما «الجزيرة» التي ذيّلت تغطيتها بشعار «غزّة تحت النار») بين غزة ورام الله والخليل وتل أبيب وسوريا واليمن والسودان وبيروت... ولم تغب أيٌّ منها عن مواكبة التظاهرات في شوارع بيروت، وما رافقها من اشتباكات وأحداث متسارعة. تحملت تلك المحطات ضغط الوقائع وحافظت على خيط من التعاطف المنطقي والأخلاقي مع الضحية.
غربيّاً، وقعت المحطات الأجنبية كما الصحف المطبوعة في حالة «شيزوفرينيا» إذ إنها أرادت أن تركز على أنّ «إسرائيل لا تستهدف إلا المواقع التابعة لحركة حماس»، فيما كانت تعرض صور جثث الأطفال والمدنيين المصابين التي تدحض ذلك. ولعلّ أبرز تعبير عن المتاهة التي وقعت فيها الصحف الأميركية بهذا الخصوص، هو عدم نشر صحيفة «واشنطن بوست» أي صورة من غزة على موقعها الإلكتروني، علماً بأنّها خصّصت خبرها الأول للحدث الفلسطيني ـــ الإسرائيلي. الغياب شبه التام لـ«بي بي سي» وEuronews عن الحدث كان لافتاً أيضاً، ما أعاد إلى الذاكرة اهتمامهما المبالغ فيه بتفاصيل بعض الأحداث الداخليّة اللبنانية، ما يدفعنا إلى التساؤل عن أولوياتهما المهنية في مثل هذا الظرف تحديداً.