هل الحق على التنظيم واليورو والمطر وزحمة السير؟زينب مرعي
لا تحتاج إلى الكثير من الوقت كي تكتشف أنّ «معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت»، هذه السنة، لم يرقَ إلى مستوى التوّقّعات، من حيث عدد الزوّار. في ساعات الصباح، الزوّار هم طلاب المدارس، حصراً، ثم يشهد المعرض ساعات من الهدوء العارم، كي تعود الحركة لتدبّ فيه لساعتين أو ثلاث مساءً، يعتمد عليها أساساً أصحاب المكتبات. ما هو السبب؟ أصحاب المكتبات يبدون مفاجَئين بالنتيجة، وخصوصاً بعدما كان العديد من الناس قد لاموهم على غيابهم في العامين الماضيين، معربين عن اشتياقهم للمعرض. غير أنّ بعضهم رأى أنّ غيابهم هذا جعل الناس ينسونهم، ويفقدون بالتالي عادتهم السنويّة بزيارة المعرض.
المحامي والكاتب ألكسندر نجّار، له باع طويل في هذه التظاهرة وكلّ ما يدور في الفلك الفرنكوفوني، يرى أنّ غياب المعرض لسنتين كان خطأً: «مهما كانت أوضاع البلد، كان يجب عليه أن لا يتوقّف، وخصوصاً أنّ معارض أخرى حافظت على موعدها السنوي»، وحاولت عدم الخضوع للوضع السياسي.
أمّا أصحاب المكتبات، فيقفون حائرين من الوضع، ولا يملكون جواباً شافياً لهذا الانخفاض في نسبة الزوّار، وبالتالي في نسبة المبيعات التي يقولون إنّها تراوحت بين الضعيف والوسط. يحاول معظمهم ربط الأمر بالعامل الاقتصادي والطقس من جهة، وعوامل لها علاقة بالتنظيم، من جهة أخرىملكة شاوي من «مكتبة أنطوان»، تقول إنّ خيبة الأمل كبيرة من نسبة الإقبال هذه السنة. كان القيّمون على المكتبة يتوقّعون عدداً أكبر. تفترض أن المطر قد يكون أحد الأسباب التي منعت الناس من زيارة المعرض في أيامه الأولى «التي لم تشهد أية حركة»، حسبما تقول.
وتضيف أوجيني شويري (La Phénicie) أزمة السير في بيروت إلى قائمة العوامل التي أدّت إلى انحسار عدد زوّار المعرض. إلّا أنّ السبب الرئيس في نظرها يبقى الوضع الاقتصادي. فسعر اليورو المرتفع جعل فئة «مشتري الكتب» تنحصر بالذين يتمتّعون بأوضاع ماليّة جيدة، أو بالمثقّفين والمهتمين عموماً بالكتب في سياق نشاطهم المهني والأكاديمي.
سحر اسطفان، من مكتبة «لو بوان»، تقول إنّ نسبة المبيعات ليست جيدة عموماً، وإنّ من يشتري هو الشخص «الميسور مادياً» أو الذي يحتاج إلى الكتاب. وهذا الأخير تحدّده اسطفان بالشخص الذي يشتري الكتب المختصّة بموضوع معيّن.
سامية خليل من مكتبة «الآداب» تقول إنّ الناس ما زالوا غير قادرين على الشراء، مع أنّ سعر اليورو انخفض في هذه الفترة. ومثلها أوجيني شويري تضع الحق على اليورو، «ارتفاعه مصيبة وانخفاضه لم ينعكس على نسبة المبيعات»... ذلك أنّ كثيرين باتوا «يخافون منه». وتضيف: «حتّى روايات الأدباء الكبار، مثلاً، التي كان الجميع يحبّ شراءها، تحوّلت اليوم إلى كتب نخبوية بما أنّ سعرها ارتفع إلى 40 و50 ألف ليرة، والقرّاء ليسوا جميعاً قادرين على دفع هذا المبلغ ثمن كتاب».
وفي جناح «أكت سود» الذي تتولّى إدارته مكتبة «أنطوان»، تقول ملكة شاوي إنّ الحركة كانت جيدة، لأنّ الدار عمدت إلى خفض أسعار كتبها أكثر من غيرها، ولأنّ المثقّف اللبناني عموماً يهتم بقراءة الكاتب العربي باللّغتين العربية والفرنسية. أمّا سيلفيان فريدريخ من الجناح المخصّص للناشرين السويسريين، فترى أنّ اهتمام اللبنانيين بالجناح الذي يدخل للمرّة الأولى إلى المعرض، كان مقبولاً. وتردّ ريا تويني، من «مكتبة البرج» التي تهتمّ بالجناح الكندي، سبب الاهتمام الذي شهده الجناح إلى غلبة كتب الأطفال، مستبعدة أن يكون لدى الجمهور فضول للترف إلى دور النشر الكنديّة.
إلا أن اللوحة ليست قاتمة تماماً. ريا تويني من «مكتبة البرج»، ونادين كسّاب من «دار النهار»، لا تتذمرّان من حال المعرض، مع أنّهما تعترفان بأنّ زوّاره كانوا أقلّ في السنوات الماضية، ولا من الاعتراف بالحركة التي شهدها الـ«بيال» خلال المواعيد مع الكتّاب... وكانت الزحمة غالباً موازية لشهرة الكاتب وشعبيّته بين القرّاء اللبنانيين. ويذكر أنّ «التظاهرة الكبرى» أثارها مارك ليفي خلال حفلة توقيع كتابه «كل تلك الأشياء التي لم نقلها لأنفسنا». هذا الإقبال لم يحصل عليه أيّ كاتب آخر.
وإن كان لا يستطيع أصحاب المكتبات أن يلوموا أحداً على المطر الذي كان في استقبال «معرض الكتاب»، أو على الأزمة الاقتصاديّة وارتفاع سعر اليورو... فإنّهم يرون أنّ الجهة المنظّمة كان لها دور أيضاً في انخفاض نسبة الزوّار. فالتنظيم كان جيداً باعترافهم، لكنّه لم يرقَ إلى مستوى التنظيم الفرنسي. وقد ارتكب «المنظّمون الجدد» ـــــ أي نقابة مستوردي الكتب وPromofair ـــــ بعض الأخطاء التي يرون أنّها ساعدت في انخفاض نسبة الزوّار. يشتكي الكثير من أصحاب المكتبات مثلاً من «الدعاية» الخجولة للمعرض، مؤكدين أنّ كثيراً من الناس لم يعرفوا باحتضان «بيال» لـ«معرض الكتاب الفرنكوفوني».
وتذهب أوجيني شويري أبعد من ذلك، إذ ترى أنه من واجب الجهة المنظّمة دعوة المدارس اللبنانيّة كلها، وفي كل المناطق، إلى المعرض، كما كانت تفعل السفارة الفرنسية. وبدلاً من أن تقوم بدورها هذا، سلّمت دعوات المدارس إلى المكتبات قبل أسبوع من بداية المعرض، فلم يتسنّ لهذه الأخيرة سوى دعوة المدارس التي تتعامل معها أو التي تعرفها، والتي تبقى في دائرة بيروت بحكم موقع المكتبات. كما تشير ملكة شاوي بأسف إلى غياب التنسيق بين نقابة مستوردي الكتب وPromofair، الأمر الذي أكّدته باقي المكتبات. فيما تشكو La Phénicie من استحداث تعرفة لـ«موقف السيارات» بعدما كان مجانياً في السنوات السابقة.
لكن ماذا لو لم تكن الأزمة مقتصرة على المطر واليورو ونواقص التنظيم وضعف الدعاية؟ ماذا لو كانت الخيبة التي لمسناها عند معظم العارضين إعلاناً غير مباشر عن انحسار الثقافة الفرنكوفونيّة في لبنان؟
ألكسندر نجّار غير موافق على الإطلاق. «لا بدّ من انتهاء المعرض قبل الحكم عليه»، يذكّر، فزوّار اليومين الأخيرين قد يغيّران المعادلة. ثم إنّه مطمئن تماماً إلى حال الفرنكوفونيّة في لبنان. فحسب إحصاءاته «66 في المئة من اللبنانيين يتكلّمون الفرنسية جيداً». لكن ازدهار الإرث الفرنكوفوني، بما هو مخزون ثقافي وأداة تفكير ونقد، لا يقتصر على إتقان اللغة، علماً بأنّها إلى انحسار واضح لدى الأجيال الجديدة. «وضع الكتاب الفرنكوفوني أفضل من وضع الكتاب العربي»، يصرّ الأستاذ نجّار، «في العالم العربي هناك مشكلة قراءة»! ويدافع أيضاً عن محور المعرض «الحوار الأورو ـــــ متوسطي»، لكونه «موضوعاً يعنينا مباشرة كلبنانيين». أما الدعاية للمعرض، فكانت جيّدة برأيه، إلّا أنّ «اللبناني دوماً كسول وخمول، عندما يتعلّق الأمر بحدث ثقافي».

فاروق مردم بك: رسول الأدب العربي إلى لغة مولييرويرى المثقّف السوري فاروق مردم بك، المشرف على السلسلة العربية لـ«أكت سود» و«سندباد» أنّ اختيار هذه الدار ضيف شرف للمعرض هو أمر طبيعي، لكونها الدار الأكثر اهتماماً بالعالم العربي، بعيداً عن أي نظرة استشراقية... إذ تنقل الهموم العربية وهموم المنطقة عموماً وتعرّف القارئ الفرنسي بالأدب العربي القديم.
ويضيف مردم بك الذي يعتبره كثيرون رسول الأدب العربي إلى لغة موليير، أنّه على المستوى الفرنسي، «أكت سود» هي نموذج لدار النشر المستقلّة والبعيدة عن الرأسماليّة، ما يترك لها هامشاً كبيراً من الاستقلالية وحريّة الحركة. ويقول إنّ «سندباد» نشرت بين عام 1972 و1992، أي قبل أن تضمّها «أكت سود» إليها، 165 عنواناً عربياً، حوالى 140 منهم ما زال يُعتبر أدباً جيداً. والسلسلة تنشر اليوم حوالى 20 عنواناً عربياً في السنة، بين أعمال كلاسيكيّة ومعاصرة وبحوث...
مردم بك يتابع حركة النشر العربية، وانطلاقاً منها يختار الكتب المرشحة للترجمة. وهو كان يفضّل لو أنه كان هناك تعاون بين «أكت سود» ودور النشر العربية، فترسل هذه الأخيرة لهم الكتب التي يهمّها ترجمتها إلى الفرنسية وبالعكس، ما يسهّل عمله. أما اختيار العمل الأدبي الصالح للترجمة، فيخضع بالنسبة إلى فاروق مردم بك لمعايير، أهمها أن تحتفظ الرواية بالنكهة العربية من دون أن تكون فولكلوريّة في الوقت ذاته، بحيث يجد فيها القارئ بعداً إنسانياً. ويضيف أنه يبتعد عن الرواية التي يجد فيها تقليداً للعالم الغربي، «لأنني في النهاية لا أريد أن أبيع القارئ الفرنسي بضاعته».
ليست الأسواق العربية هي الأساسية لـ«أكت سود». فالقارئ العربي يفضّل أن يقرأ الكتاب بلغته الأصلية. الدار هدفها تعريف القارئ الفرنسي المهتم بالأدب العربي، ويرى أنّ الدار نجحت حتى الآن في دورها هذا. إذ إنّها باعت كتباً بأرقام غير منتظرة، وخصوصاً «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني.