حسين بن حمزةإذا كان «اليومي» هو السائد الآن في المشهد العام للشعر العربي، فإن ما يكتبه الشاعر المغربي طه عدنان يأخذ مفهوم اليومي إلى آخر طبعاته المحدثة. مجموعته «أكره الحب» (دار النهضة العربية ـــــ بيروت) مثال نموذجي على كتابة شعرية تسعى إلى تضمين التكنولوجيا الجديدة ووسائط الاتصال الرائجة في إنجاز قصيدة يومية. إذ كيف تحوز هذه القصيدة صفة «اليومي» والراهن والمستجدّ إنْ لم تحضر فيها رسائل الهاتف المحمول ورسائل الإيميل وغيرها من مفردات الإنترنت وعوالمه الافتراضية التي باتت تحتل مساحة أساسية في حياتنا. بهذا المعنى، قد «يُتّهم» الشعراء اليوميون الآخرون بالتخلف عن مجاراة التطور الحاصل.
يستثمر طه عدنان مفردات هذا العالم بطرق مختلفة، ساعياً إلى خلق ألفة بين التقنية المحضة والمعجم العادي. لنقرأ: «ضيَّعتني الإنترنت/ بدَّدت دفئي الباقي/ ولم أجنِ منها سوى الوحدة». وفي قصيدة أخرى، يحنّ إلى زمن الورقة والقلم: «يا رب، ما لي والتكنولوجيا/ كنتُ فيما مضى/ أخطُّ أشجاني/ على صفحة بيضاء مثل هذي». ثم يستسلم للحالة أكثر: «صباح الخير أيها العنكبوت/ صباح الرضى يا زقزقة الكهرباء/ أنا جاهزٌ فخُذيني/ إلى عالمي الذي من ضوء/ فلديَّ جيران طيبون في هوتمايل/ وأترابٌ ودودون في ياهو/ وعشيقة سرية في كارامايل». تتسرب مثل هذه الصور إلى قصائد عدة من المجموعة، وبعضها يأتي على شكل قصيدة كاملة.
العالم الافتراضي الذي تحيا فيه غالبية قصائد طه عدنان، لن يُنجيه من تبعات واقعية أخرى هي من أساسيات الشعر اليومي. العزلة، مثلاً، تصبح مضاعفة لدى هذا الشاعر الذي يقيم في بلجيكا منذ عشر سنوات. أغلب قصائد المجموعة ــــ وهي الثالثة له بعد «ولي فيها عناكب أخرى» و«بهواءٍ كالزجاج» ــــ تحتفي بالوحشة والعزلة والفقدان. لعلّ هذه الصفات من أولويات شعر فردي كالذي يكتبه طه عدنان، حيث يحلُّ التأريخ الشخصي للتجربة والسيرة الذاتية وزاوية النظر إلى العالم في صدارة الموضوعات التي تخطر في مخيلته. العزلة هنا هي بطلة واقعية وافتراضية في آنٍ واحد. لا فرق إن كُتبت بكتالوغ الكمبيوتر البارد، أو بدفء اللغة العادية.
هذه الملاحظة قد تُشعر القارئ بأن القصائد التي تُفسح مساحة كبيرة لمفردات العالم الافتراضي، تُجازف بتحويل الشعر إلى سخرية زائدة عن الحاجة. الموضوع مغرٍ بالكتابة، ولكن معالجة الموضوع الواحد بكثرة ربما لن تحوز الدهشة نفسها من القارئ. هذا ما يحدث حين يلعب الشاعر على بيتٍ شهيرٍ للشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود: «سأحمل روحي على فأرتي/ وأُلقي بها في مهاوي الكوكييز». وكذلك حين يستخدم صدر بيتٍ أكثر شهرة للمتنبي: «الويبُ/ والوابُ/ والنيتسكايبُ تعرفني».
في المقابل، يبرع طه عدنان في تنزيل القارئ إلى الطبقات السفلى لوحشته. «كبقعة زيت/ على سترةٍ بيضاء/ أبدو بينهم»، يكتب في قصيدة «موعد حب عربي». أو يدعو القارئ إلى جولة حميمة في كواليس قصيدته: «حينما تغلقُ في وجهي أبواب الأخيلة/ تحضّني الأمَّارةُ على حذو صديقي ذي السرقات المرموقة كساقيّ صابرينا/ فلا أجدُ لديَّ من القصائد/ ما يكفي لتكرير الشعر/ تباً لخزانتي الفقيرة/ تباً للسراب/ دفنَ الماء الأخير/ في الريح/ وذاب».