ينطلق الباحث الأميركي/ الباكستاني من اعتداءات 11 أيلول، ليغوص في مفاهيم التاريخ والفلسفة والدين والفن والأدب والتخلف والحداثة والليبرالية... بوصفها عوامل تتدخّل في صناعة أي حدث، بما في ذلك «الإرهاب» و«الحرب على الإرهاب»
حسين بن حمزة
يظن القارئ ــــ لأول وهلة ــــ أنّ ترجمة كتاب «عن التفجيرات الانتحارية» (المركز الثقافي العربي ــــ ترجمة فاضل جتكر) لطلال أسد إلى العربية، متأخرة زمنياً عن طبيعة الموضوع الذي يعالجه المؤلف. تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) حدثت عام 2001 وأسالت حبراً كثيراً لدى فلاسفة ومفكّرين ومحللين من كل أنحاء العالم، فما الذي سيضيفه هذا الكتاب يقول القارئ لنفسه؟ لكن تساؤلاته وظنونه تزول بسرعة مع تعمقه في مادة الكتاب. طلال أسد، الباكستاني الأصل، وأستاذ علم الاجتماع في جامعة كولومبيا، لا يناقش المقالات والتحليلات التي كُتبت مباشرة بعد الهجمات. الكتاب صدر بالإنكليزية عام 2006، وعليه أن يأخذ في الاعتبار التطوّرات الدراماتيكية التي أعقبت تلك الهجمات، فضلاً عن أنّ الابتعاد عن لحظة حدوثها توفر له ــــ وللقارئ أيضاً ــــ قراءة متأنية قائمة على استثمار مفاهيم التاريخ والفلسفة والدين والفن والأدب والتخلف والحداثة والليبرالية... بوصفها مسائل وحيثيات متدخلّة في صناعة أي حدث، بما في ذلك «الإرهاب» و«الحرب على الإرهاب».
ما جرى في 11 أيلول موجود ــــ طبعاً ــــ في خلفية أطروحات طلال أسد، إلا أنّه لا يتلو هذه القصة المكرورة، بل يبني كتابه على جزيئات وتفاصيل نشأت لاحقاً بالتزامن مع رد الفعل المتمثل في غزو أفغانستان ثم العراق وتصاعد العنف وعمليات القتل ضد الفلسطينيين من جانب إسرائيل... وهي أحداث مُورست وبُرِّرت تحت عنوان «الحرب على الإرهاب». الإرهاب والحرب عليه، تحولا إلى «خطاب» شامل قامت عليه قرارات وسياسات وحروب واحتلالات. بهذا المعنى، تصبح المسافة بين زمن التفجيرات النيويوركية وزمن أفكار الكتاب، أمراً إيجابياً ومفيداً. هكذا، يقوم بمناقشة كتبٍ وآراء وتعليقات تناولت الموضوع نفسه من زاوية «تمييز إرهاب الحروب الحديثة الذي تمارسه الدول، والإرهاب الذي يمارسه المناضلون»، حيث تقوم هذه الآراء على «ادّعاء نوع من التفوق الأخلاقي لـ «الحرب العادلة» ووصم أفعال الإرهابيين ــــ ولا سيما انتحاريي التفجيرات ــــ بالشر المطلق». هذا التمييز هو الهدف الذي يحاول طلال أسد دحضه أو ــــ على الأقل ــــ زعزعة بداهته المتبنَّاة في الغرب. ينقل المؤلف النقاش إلى المجتمع الحديث والليبرالي ويواجهه بمسلّماته هو، لا بمسلّمات الخطاب الذي يؤمن به «الإرهابيون» أو من يتساهلون في محاكمة أفعالهم. إن معياراً مثل «قتل المدنيين الأبرياء» أو «إدخال الهلع إلى روتين حياتهم اليومية» المُدان من جانب المجتمعات الليبرالية، يتعرض في الكتاب لمساءلة فلسفية وسياسية دقيقة. إذْ إن «الحرب الحديثة تلغي الحدود الفاصلة بين «ضحايا أبرياء» من جهة، وإصابة مقاتلين «ليسوا أبرياء» تحديداً من جهة ثانية». ثمة قوانين دولية تهدف إلى رسم تلك الحدود، لكن ما مدى قدرتها على الإقناع؟ وما مدى الخرق الذي تتعرض له باسم «الحروب العادلة والضرورية»؟ ولماذا جرى ابتكار فكرة «الأضرار الجانبية» لتغطية كل الجرائم غير الأخلاقية التي ترتكب في هذه الحروب؟ هذه بعض الأسئلة التي تقوم عليها أطروحة المؤلف الذي يستشهد بتعليق مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، على وفاة 500 ألف طفل عراقي بعد حرب الخليج الأولى. إذ قالت: «أعتقد أنّ ذلك كان خياراً بالغ الصواب، لكن الثمن مناسب باعتقادي». وفي مكان آخر، يستشهد بما يفعله الجيش الإسرائيلي، متسائلاً إن لم يكن تدمير المدنيين وقتلهم، وتحطيم روتين حياتهم اليومية، أمراً اعتيادياً في حرب إسرائيل على «الإرهاب» الفلسطيني. إن تركيز المؤلف على الولايات المتحدة وإسرائيل مقصود، ومردّ ذلك هو تزعّم أميركا للحرب ضد الإرهاب، واستثمار إسرائيل لهذه الحرب في تصفية الفلسطينيين وتشديد الحصار على مناطقهم.
ينفي طلال أسد مفهوم «صدام الحضارات» كسبب لما يحدث. ففي رأيه، ليست هناك «مجتمعات منغلقة ذاتياً تعكس قيماً حضارية ثابتة». بدلاً من ذلك، يطرح سؤالاً مختلفاً: «كيف نحدد الفرق بين الإرهاب والحرب؟ أي لماذا يكون القتلى المدنيون في الحرب «ضرورة استراتيجية» بينما هم «ضحايا أبرياء» في التفجيرات الانتحارية؟ يستعرض المؤلف آراءً عديدة ترى أنّ الحرب مكرسة قانونياً، بينما القتل البغيض الذي يقترفه الإرهابيون ليس كذلك. وفق هذه البديهية الرائجة في الغرب، يتحول صدام الحضارات إلى «حرب تشنها الحضارة على غير المتحضّرين، حيث يمكن جميع القواعد المتحضّرة والمتمدنة أن تُزاح جانباً».
يحاول طلال أسد أن يقول إنّه لا فرق نوعياً بين الإرهاب وبين الحرب عليه. هو لا يبرر التفجيرات الانتحارية، بل يفضح كمية «الإرهاب» الذي تمارسه الدولة باسم «الحرب على الإرهاب». فإذا كان الشر الاستثنائي الكامن في الإرهاب لا يتمثل بقتل الأبرياء فحسب بل بزرع الرعب في الحياة اليومية، فإن الحرب ــــ عادلةً كانت أم ظالمة ــــ تفعل ذلك أيضاً. وهذا يعني أن الجيش الرسمي والجماعة الإرهابية يشتركان في صفات كثيرة.
طلال أسد يتوصل إلى استنتاجات مثيرة، حين يؤكد أنّ المفجّر الانتحاري ينتمي إلى تراث غربي قائم على انتهاك الضوابط الأخلاقية. وإلا فماذا نسمي حق الدولة الليبرالية في الدفاع عن نفسها بالأسلحة النووية؟ أليس هذا «انتحاراً» مشروعاً في نظر الغرب؟