رداً على ملاحظة عابرة في مقالة حازم صاغية أطلقت حكم الإعدام على تجربة زياد الرحباني الذي «تقلّصت موهبته لتنحصر في إعادة توزيع ألحان أمّه وأبيه...»
بشير صفير
في سجاله مع أسعد أبو خليل، تعرّض حازم صاغيّة للفنان زياد الرحباني (من دون أن يسميه)، معتبراً أن «موهبته تقلّصت لتنحصر في إعادة توزيع ألحان أمّه وأبيه...» («الأخبار»، ٦ ت2/ نوفمبر الحالي). والأرجح أن الكاتب والصحافي اللبناني يقصد تحديداً ألبوم زياد المعروف «إلى عاصي» الذي يعدّ من أهم إنجازات الرحباني الابن في السنوات الأخيرة، لقوّته الموسيقيّة وإضافاته الفنيّة والجماليّة... موسيقياً (أو فنياً)، يظلّ زياد مسؤولاً عن أعماله في جميع مراحل تكوينها. يقع على عاتقه أن يسهر على تكوين اللحن. أن يتعب على التوزيع. أن يختار أخبَر الموسيقيين لتنفيذ النتيجة النهائية. أن يؤمّن أفضل ظروف التسجيل. من هنا هو مسؤول عن موسيقاه ما دام احتمال التعديل بُغيَة الأفضل ما زال قائماً. لكن، حالما يصل العمل الفني إلى الناس، تنتقل مسؤوليته إليهم. وبات بإمكاننا أيضاً أن ندافع عن هذا التراث الفنّي.
صَدَر «إلى عاصي» عام 1995، وتلاه «بما إنو»، «مش كاين هيك تكون»، «مونودوز»، حفلات فيروز في بيت الدين (وأسطوانة حفلات عام 2000)، «ولا كيف»، توزيعٌ جديدٌ لموسيقى مسرحية «صح النوم»، «معلومات أكيدة»، حفلات (و«دي. في. دي») «دا كابو» في أبو ظبي وبيروت، حفلات دمشق هذا الصيف... فضلاً عن المؤلفات (المسجَّلة وغير المسجَّلة) القابعة تحت الأرض في أدراج «استوديو نوتا» التي تنتظر ليس منتجاً فحسب، بل شبكة توزيع قادرة على كسر حصار الأغنية الاستهلاكيّة التي تلعب على الكبت، وتروّج لفقر الخيال وقلّة الذوق. فهل«انحسرَت موهبته» حقاً؟
إن الإضافة التي أنجزها زياد على مستوى التوزيع في «إلى عاصي» هي عمل فنيّ بحد ذاته، استغرق سبع سنوات من الجهد... بل هي أفضل ما قدّمه الأخير في هذا المجال. ربّما تعود ملاحظة الأستاذ صاغيّة إلى أن المستمع العربي لا يملك بعد ثقافة التوزيع. وإلمامه ما زال منحصراً بالكلمة واللحن الأساسي. إن النغمة الأساسية هي الهندسة المعمارية، والتوزيع هو الهندسة المدنية التي تؤمِّن قيام الشكل الفنّي واستمراريته. هذا الإطار الديناميكي قد لا نوليه أي اهتمام في تمتّعنا بالنظر إلى شكل عمارة، لكن مجموعة الأبنية التي تكوّن المشهد الإجمالي لها أيضاً منطقها وتكوينها الإبداعي. إنّ ألحان عاصي الجميلة هي الشكل الخارجي الجميل، والبنية التحتية التي أضافها زياد تحمل إبداع أبيه إلى الأبد، ليس فقط لأنها متينة بل لأنها جميلة أيضاً، وأجملُ من اللحن أحياناً. بكلمة، زياد/ «إلى عاصي» هو بمستوى مايلز دايفس/ «كايند أوف بلو» وباخ/ غلان غولد/ «تنويعات غولدبرغ» (التسجيل الثاني، 1981) وغيرها من الألبومات التي صنعت شرف البشرية الموسيقي. فأين «تقلّصت موهبته»؟!
عندما نسمح لنفسنا أن نعيّر «مُعيد التوزيع» بـ«تقلّص الموهبة وانحسارها»، فماذا نقول عن كارايان وريختر وغولد وكازالس، والعشرات غيرهم ممن يحتلون رأس قائمة الشخصيات الموسيقية التاريخية؟ هل كتب هؤلاء لحناً واحداً؟ (ولو أن لبعضهم تجارب عَرَضية في مجال التأليف، لكن أداءهم هو ما أدخلهم التاريخ). هل وزّع كارايان أو أعاد توزيع بيتهوفن من أجل أن يطغى اسمه على الأخير؟ ألا يدين باخ إلى كازالس بشهرة متتاليات التشيلو الستّ؟
على أية حال، ما سبق ليس أكثر من رأي. لسنا (ولا النقّاد) من يحدّد أهمية «إلى عاصي». كثير من الأعمال التي أشاد معاصروها، عاد فأهملها التاريخ والعكس صحيح. لكنّنا ندافع عن هذه الجوهرة خوفاً من لوم التاريخ... علّه كان من رأينا.