حكواتي بدائي يجيد نقل الأساطير

إنّه كاتب التّيه بامتياز. منذ روايته الأولى «المحضر» اختار أن يمضي إلى الأقاصي ويغوص في الحضارات البعيدة، حيث الصفاء والحقيقة الكامنة في أعماق الإنسان... كتب وعاش بعيداً عن «أدغال المدن». جان ـــ ماري غوستاف لو كليزيو فاز أمس بجائزة نوبل للآداب

بيار أبي صعب
كان في السادسة من عمره حين صعد إلى السفينة مع أمّه في الميناء الفرنسي المتوسّطي. مثل بطله فينتان في رواية «أونيتشا» (1991)، كان الصّبيّ متوجّهاً، في ذلك اليوم من عام 1946، إلى أفريقيا للقاء والد لا يعرفه، يعمل في إحدى الجزر البعيدة على الضفاف الغربية للقارّة السمراء. يروي الكاتب تلك الواقعة في نصّ ضمّنه «قاموس الكتّاب المعاصرين بأقلامهم». على متن Nigerstrom، وهي باخرة مختلطة للشحن والركاب، تملكها شركة «هولاند أفريكا لاين»، راح يكتشف الأفق البعيد، من ذلك العالم العائم المقسوم إلى «علوي» يشغله أسيادٌ بقبّعاتهم وبذلاتهم وأناقتهم الاستعماريّة، و«سفلي» خاص بالعبيد ذوي الأجساد العارية الملألئة بالعرق. منذ ذلك اليوم، صار كاتباً. أدمن الرحيل إلى الأقاصي، بحثاً عن ذلك الشيء المفقود. الأب؟ السعادة؟ الصفاء؟ الجذور؟ ربّما كلّها مجتمعة. فهو سيبقى مسكوناً بذلك الغياب، ساعياً خلف السراب الجميل الذي اسمه المجهول. المهم أن الصغير كتب على متن الباخرة روايته الأولى التي لن تنشر طبعاً. وأمضى، كما يقول، بقيّة حياته يبحث عن تلك الحالة، حين تنزلق المدن على السفينة التي تؤرجها الأمواج. حالة السفر والرحيل والإبحار نجو المجهول التي تولّد الكتابة.
إنّه جان ــــــ ماري غوستاف لو كليزيو (1940)، الكاتب «الفرنسي» في النهاية ـــــ رغم اختلاط ثقافاته وهويّاته وأصوله ـــــ صاحب «الحلم المكسيكي» (1988) و«صحراء» (1980) و«الأفريقي» (2004) و«الباحث عن الذهب» (1985) و«ناس الغيوم» (1997)، الذي فاز أمس بـ«جائزة نوبل للآداب»، بصفته «كاتب القطيعة، والمغامرة الشعريّة، والنشوة الحسّيّة، ومكتشف إنسانيّة كامنة تحت الحضارة السائدة وما وراءها». حياته كلّها ستكون سعياً وراء الذات، من خلال الغوص في الحضارات والثقافات والهويّات. أول سؤال طرح عليه بعد الفوز بجائزة نوبل، كان هل أنت فرنسيّ أم فرنكوفونيّ؟ فرنسيّ أم بريطانيّ؟ بريطانيّ أم موريسيّ؟ نسبة إلى تلك الجزيرة المستكينة على المحيط الهادئ التي انطلق منها كلّ شيء...
وماذا لو كان لو كليزيو كلّ تلك الهويّات مجتمعة؟ هناك ما يذكّر بإلحاح بأسئلة عربيّة راهنة عبّر عنها أمين معلوف في كتاب شهير (الهويات القاتلة). فالكاتب المولود في نيس، هو في الحقيقة من جزر الموريس، أي بريطاني بحكم استعمار الإنكليز لها. والده الطبيب الريفي، جاء أجداده إلى الجزيرة قبل قرنين ونيّف من فرنسا، من منطقة «بروتاني» تحديداً التي تتمتّع بخصوصيّاتها اللغويّة والألسنيّة والثقافيّة والحضاريّة، رغم انتمائها الكامل اليوم إلى جسد الجمهوريّة. أمّه أيضاً فرنسيّة، من بروتاني. هو وُلِد وعاش متأرجحاً بين الهويّة المتوسّطيّة في مدينة نيس، والهويّة السلتيّة في Bretagne، من دون أن ننسى الثقافة الأوقيانيّة التي يحملها في الدم. من هذه التركيبة المعقّدة نبتت عنده تلك الحاجة إلى السفر، ذلك البحث الدائم عن الهويّات والجذور. ابن الثقافة المزدوجة، يجمع بين التربية الأنكلو ــــ ساكسونيّة واللغة الإنكليزيّة من جهة، والثقافة الفرنسيّة التي سترجّح كفّتها في نهاية الأمر (أطروحته كانت عن شعر هنري ميشو). لقد تردد لو كليزيو في بداياته، أراد أن يكتب في لغة شكسبير، هو الذي يعشق ستيفنسون وكونراد وديكنز وكيبلينغ، قبل أن يحسم أمره: لنقل إن اللغة الفرنسيّة صارت هويّته الحقيقية، وطنه النهائيّ. أليست تلك أيضاً علاقة كثيرين بيننا باللغة العربيّة؟
هكذا سيتعامل جان ــــ ماري لو كليزيو مع هويّته، كمشروع دائم التطوّر، عبر الكتابة والسفر. من خلال حياته المهنيّة والأكاديميّة، والخدمة العسكريّة قبلها، سيذهب الأشقر الطويل ذو العينين الزرقاوين إلى الأقاصي والأطراف، ولن «يعود» منها تماماً، علماً بأنّه يعيش اليوم بشكل أساسي، ويدرّس، في الولايات المتحدة (نيو مكسيكو). سيصبح روائيّ الوحدة والتّيه بالنسبة إلى بعضهم، الكاتب البدوي بالنسبة إلى البعض الآخر. من جامعتي بريستول ولندن إلى بنما والمكسيك، حيث سيكتشف الهنود ويعيش بينهم مطلع السبعينيات، وينبهر بالحضارات البدائيّة: «هذه التجربة غيّرت حياتي، أفكاري عن العالم والفنّ، أسلوب التعاطي مع الآخرين، طريقتي في المشي والأكل والنوم والحبّ، وصولاً إلى أحلامي». من هنود أميركا الذين نقل أساطيرهم، وتقمّص حكمتهم... إلى الصحراء، أرض الصفاء والنقاء والحكمة والإنسانيّة الضائعة: تلك المقاربة تذكّر بأدب إبراهيم الكوني. سيقترب لو كليزيو من الحضارة العربيّة والإسلاميّة، والأفريقيّة بشكل أشمل. سيكتب عن الطوارق، «الرجال الزرق»، ويتخذ من ذلك الفضاء وأهله وعذاباتهم إطاراً لروايات عديدة. من «للا» بطلة «صحراء» إلى ليلى بطلة «السمكة الذهبية» (1996)، ثم أهل ساقية الحمرا الصحراويين الذين خلّدهم في «ناس الغيوم» (1997) مع زوجته جمعة المتحدرة من ذلك المكان... قبل أن يصل إلى فلسطين ليصف تلك الرحلة المتقاطعة لأستير الآتية إلى «أرض الميعاد»، ونجمة الخارجة من أرضها وأرض أجدادها إلى رحلة التّيه. (نجمة تائهة» ــــ 1992)
كان عالمه يتّسع ويغنى ويتلوّن، ويبتعد أكثر عن «الحضارة المركزيّة» التي يحكمها «العمالقة» (1973)، ويحاصرها «الـطوفان» (1966)، وتقوم على كل أشكال «الحرب» (1970): أي المجتمعات الغربيّة القائمة على الإنتاجيّة والاستهلاك والاستغلال والماديّة المسطّحة. هكذا ستغلب على لو كليزيو في المرحلة الأولى، صورة الكاتب الغاضب والرافض والمتمرّد، كما تماهى أسلوبه لوهلة مع تيّار «الرواية الجديدة»، قبل أن يذهب إلى مزيد من الهدوء الشكلي، ومن العمق الميتافيزيقي في الثمانينيات. الثورة ستصبح مستبطنة مضمرة مستترة (سيحكي عن الطفولة والسعادة والأقليات المستضعفة). فيما سيهدأ الأسلوب، ليتخذ منحى كلاسيكياً في الظاهر، محتضناً كالبراكين الراكدة كل قوّة لو كليزو وعبقريّته الأدبيّة. إنّه الكاتب الذي حقّق انتشاراً في المكتبات من دون أن يقدّم أدنى تنازل على مستوى النوعيّة.
تلك البساطة الخادعة، الأنيقة، المترفة، المحمّلة بالمعنى والألوان والحرارة والجمال والانفعالات، هي ما يميّز أدب لو كليزيو. يدعو القارئ، من خلال مراقبة العالم، إلى التأمّل في أعماقه، بعيداً عن الموضة الباطلة. بكلمات متقشّفة يأخذه من يده كما يفعل الحكواتي البدائي الذي يجيد نقل الأساطير بشكل مادي ومحسوس، ليجعله يغوص في الطمأنينة والسلام والشعر، في حالة من النشوة التأمليّة... يصيخ السمع إلى تلك الأصوات الصامتة... علّه يدرك أخيراً ـــ مثل بطل «الباحث عن الذهب» ــــ أن السعادة الحقيقيّة هي في أعماقنا التي تعكس جمال العالم.