سناء الخوري تقف فرادة كتابة لو كليزيو حجر عثرة أمام أيّ نزعة نقديّة، أو أكاديميّة، لتصنيفها ضمن تيّار أدبيّ معيّن. بدأ الأديب يشقّ طريقه في أوائل الستينيات عندما فاز بجائزة Renaudot الفرنسيّة عن «المحضر» (1963)، في وقت كان فيه تيّار «الرواية الجديدة» بقيادة ألان روب غرييه في أوج مجده في الأروقة الأكاديميّة، إلى جانب الكتّاب الملتزمين بنقل فلسفتهم الوجوديّة من خلال الرواية والمسرح وعلى رأسهم جان بول سارتر وألبير كامو. في هذا السياق الزمني، لا يمكن فصل بدايات لو كليزيو عن الجوّ الأدبيّ السائد حينها. إذ كان على تماس مباشر مع قضايا هذه التيّارات وعلاقتها مع اللغة، لكنّه احتفظ في الوقت عينه بنبرةٍ خاصّة بدأت تتكرّس في رواياته اللاحقة.
لم يقتل لو كليزيو الأبطال بالكامل كما فعل روّاد «الرواية الجديدة». ولم يذهب إلى حيث ذهبوا في اختباراتهم على اللغة والجملة والحوارات، وفي تحطيمهم الكامل لكلّ ما قامت عليه أسس الرواية التقليديّة. أسلوب لو كليزيو في الكتابة يتقاطع مع أصحاب «الرواية الجديدة» في بحثه عن لغةٍ جديدة، لكنّه عوض أن يقول العالم بلغة مِن اختراعه قد تُحطّم الواقع الحقيقي، قرّر أن يكون ناقلاً لهذا الواقع، وهو لهذه الناحية أديب يرى إشاراتٍ لغويّة في كلّ ما يحيط به. نظرة لو كليزيو الأديب إلى الوجود لا يمكن أن تنفصل عن النصّ المكتوب، فهو يرى النصّ (واللغة) كائناً قائماً بحدّ ذاته، بغضّ النظر عن الحبكة والشخصيّات، وهذا ما يميّز لغته التي يصفها بعض النقاد بـ«الأفلاطونيّة» لناحية اعتبار الكلمة والجملة، الرمز الحقيقي والفعلي للأشياء الواقعيّة، ولناحية اعتبار الكلمات كائنات شفافة.
في هذا الإطار، يرى صاحب «صحراء» العالم كلّه نصّاً، واللغة سياقاً مسبقاً لعَيش الإنسان للواقع، وطريقه الوحيد إلى الحقيقة. تحوِّل لغة لو كليزيو الرمزيّة انطباعات الأبطال عن الأمكنة والأحداث إلى كائنات لغويّة، إذ قال في أحد حواراته الصحافيّة: «كلّ شيء في المدينة يبدو لي مكتوباً، كأنّها هندسة للكتابة». في الوقت نفسه، تبقى اللغة التي حاول أن يحرّرها من وظيفتها التقليديّة أداة للتعبير والتواصل. هنا، قد تكون وظيفة اللغة التواصلية التيمة الجوهريّة لكلّ أعمال لو كليزيو. يخرج التواصل عنده من إطار اللغة والإفهام إلى بعد فلسفيّ آخر، استقاه من الأساطير الهنديّة والمكسيكيّة التي تأثّر بها كثيراً لناحية الرغبة في تواصل الإنسان مع العناصر، والتواصل بين المجتمع البشريّ والكون.
لكنّ هذه الرغبة بالتواصل تحوّلت إلى رغبة أخرى في تحويل الكلمات إلى سحر، والنصّ إلى وسيلة للبحث عن أوتوبيا تترجمها الموسيقى اللغويّة وشخصيّات الأطفال والنساء الحاضرة بقوّة في كلّ رواياته (معظم أبطاله نساء). في هذه النقطة تحديداً تتحوّل اللغة إلى أداة للتعبير عن مكنونات هذه الشخصيات وصراعها الوجودي. رغبة في التواصل لكنّها تنتقد مسببات الصراع الذي تعيشه شخصيّاته في رحلة البحث عن وسيلة لفهم العالم، ما يبدو محاولة مستحيلة لأنّها قبل كلّ شيء ذاتيّة. من هنا يأخذ الوصف مساحةً كبيرة في السرد الروائي، وذلك بحسب رؤية الشخصيات أنفسها للأماكن المحيطة وانطباعاتها عنها، ما يعمّق أسلوبيّاً تيمة الوحدة، وتيمة النظرات التي يلقيها الأبطال على محيطهم أو يتبادلونها. رغم هذا التركيز على تجربة الشخصيّات الداخليّة في النظرة إلى الكون، تبقى لغة لو كليزيو خالية من أيّ رسالة «مفيدة». الأديب نفسه يرى أنّ الأدب ليس مفيداً بالمعنى العملي للكلمة، لكنّه يتناول أكثر مواقف الإنسان المعاصر الجدليّة لناحية وحدته، وبحثه عن مكانٍ لاختلافه، وعلاقته بالمال، ونظرة الفقراء وشعوب الجنوب إلى العالم الغربي، وهي نظرة تبحث عن وسيلة لتفهم فيها عالماً يفتقر إلى السعادة الفطريّة. هكذا، يمكن أن تكون كتابة لو كليزيو هي المثال للكتابة المعاصرة، بانفتاحها على التأويلات المختلفة التي تجعل حكم القارئ المرجع الأخير لأي تأويل، وخصوصاً أنّ محاولة نقل الحقيقة من خلال نظرة الشخصيّات واللغة الشفافة الرمزيّة تبقى بكلّ الحالات غير مكتمل، حتّى ولو فاز لو كليزيو بجائزة نوبل.