حسين بن حمزة
بمنحها «نوبل» للو كليزيو، لا تكافئ الأكاديمية السويدية موهبة هذا الروائي فقط، بل تكافئ أيضاً روح الترحال والمغامرة التي تسري في أعماله. الاحتكاك بحضارات وجغرافيات غريبة هي سمة نصوصه وحياته الشخصية أيضاً. في أعماله، يصعب الفصل بين خياراته الأسلوبية والمادة الواقعية التي كُتبت وفق تلك الخيارات. لكن هذا المزج والترابط بين عالمه الروائي ومواد هذا العالم، لا يحدثان بمفهوم الرحلة السياحية. الرحلات قادته إلى الاصطدام بقضايا تخصّ البيئات التي ذهبت إليها رواياته. أبطاله طالعون من الحيوات الخلفية والسفلية والمعدومة لمجتمعاتهم. البيئات التي احتكّ بها حفرت شقوقاً في هويته الفرنسية المتصدّعة أصلاً بين والد إنكليزي وأم فرنسية. الترحال ـــــ على أي حال ـــــ لم يكن خياراً ذاتياً له، بل نوعاً من الوراثة في عائلة موسومة بالترحال. والده كان طبيباً يمارس المهنة في الأماكن النائية والصعبة. كان «طبيباً بلا حدود» قبل ولادة المنظمة، كما يقول لو كليزيو نفسه الذي التحق به في نيجيريا وهو في السابعة. استمر الترحال كنوع من القدر والرغبة معاً. وهو ما يتضح عبر سعيه شاباً للتطوّع في البحرية، لكنه لم يُقبَل.
ولعل فشله هذا يبرر لاحقاً إنجازه رواية «مصادفة» التي تدور أحداثها على سطح سفينة تمخر البحار. ثمة عامل آخر، وهو الحرب التي عاشها وأصابته بتصدّعٍ إضافي. إذْ وُلد في السنة الثانية للحرب العالمية الثانية، ثم ترعرع في حقبة الحروب الاستعمارية. فمن جهة الأب: كان البريطانيون يحاربون في ماليزيا، بينما كانت حروب فرنسا في الهند الصينية ولاحقاً في الجزائر، تُخاض من جهة الأم. الحرب ـــــ كسمة مرافقة لحداثة الغرب وسياساته ـــــ حضرت مبكراً في أعماله. بعدها لم يكن غريباً أن تحضر السمات الغربية الأخرى: العنصرية، التوحش الرأسمالي، كراهية الأجانب والقادمين من المستعمرات والمهاجرين.
عوالم عدة، إذاً، تسرّبت إلى هذه الهوية الضيقة، وجعلتها على تماس حيوي وصدامي مع العالم. في بانكوك أثناء خدمته العسكرية، سبّب مقالٌ كتبه عن دعارة الأطفال، في تايلاند، طرده. ثم أُرسل إلى المكسيك، حيث كان منعطف حاد بانتظاره. عاش هناك 20 سنة (1967 ـــــ 1995). اشتغل على تراث الهنود الحمر، وكرّس لهم عدداً من كتبه. انحيازه للقضايا العادلة كتَّبه «نجمة تائهة» التي روى فيها مأساة الفلسطينيين بعد النكبة، وأكسبته عداء الأوساط الصهيونية في فرنسا واتُّهم باللاسامية.
كتب الحياة اليومية للبشر الذين اختلط بهم. لم يكتب عنهم بل كتبهم. لا نجد في أعماله وصفاً برّانياً، أو ترجمة ذهنية لأفكار مسبقة. الأسلوب المباشر والوقائعي لرواياته أعطاها نكهة إثنوغرافية ممزوجة بلغة السرد عند الرحالة والمستكشفين الأوائل. لعلّ هذا يُذكّرنا بروائي آخر هو ف. س. نايبول، صاحب نوبل ـــــ 2001، لكن في الاتجاه المعاكس! إذ إنّ نايبول بدا كارهاً لأصوله كابن للمستعمرات. وحين ذهب إلى إيران ومصر وإندونيسيا وباكستان، لم ينقل إلى كتبه عن تلك الرحلات سوى الاشمئزاز من التقاليد السائدة في الإسلام. لكنّ إيجابية لو كليزيو تجاه الشعوب التي كتب عنها لا تُوقعه في باب التعاطف السطحي. وعلينا ألا نقع في الهستيريا التقليدية التي تدفعنا إلى النبش في سيرة أي صاحب «نوبل»، والتأكد مما إذا كان معنا أم ضدنا، متناسين أنّ الأدب لا يُحاكم بهذه الطريقة الساذجة. رغم ذلك، سيجد العرب شيئاً يدغدغ مشاعرهم في فوز لو كليزيو: إضافة إلى الضجة التي أثارها «نجمة تائهة»، هناك زوجته ذات الأصول الصحراوية المغربية. ولعلّ روايته «سمكة من ذهب» التي نُقلت إلى العربية (ترجمة عماد موعد)، هي محاكاة غير مباشرة لتغريبة زوجته كواحدة من أفراد الجيل الشمال أفريقي الذي هاجر إلى فرنسا وتجرّع مرارة الاندماج. علاقة لو كليزيو بالعالم العربي هي ـــــ في النهاية ـــــ جزء من سيرته المرتحلة بين عوالم وحضارات عديدة. إنّها السيرة التي قادته ذات يوم من 2001 إلى بيروت، لنكتشف وقتها أنّه يعرف الأدب العربي جيداً.
بالنسبة إلى لو كليزيو، لا حدود جغرافية للكتابة. وعلينا أن نصدّقه حين يسمّي سفره ـــــ الكتابي والجسدي ـــــ بين العوالم بـ«النشيد الكوني».