يعود الروائي والسياسي الفلسطيني إلى الكارثة التي حلّت بالمخيّم الشهير شمال لبنان... ثم يعبر إلى فضاء النكبة الأوسع. «حاسّة هاربة» عن لعنة سيزيف التي تلاحق أهل اللجوء!
أحمد مصطفى جابر
إذا كانت مقولة هنري فيلدنغ عام 1742 في وصف رواية جوزيف أندروز بأنّها «قصيدة كوميدية ملحمية مكتوبة نثراً» ما زالت صالحة للتعبير عن البنية المنفلتة للرواية، فإنها صالحة أيضاً للحديث عن الحالة المراوغة الشديدة التلوّن، لرواية التشكيلي والسياسي الفلسطيني مروان عبد العال الأخيرة «حاسة هاربة» (دار الفارابي) ما عدا، طبعاً، الحديث عن الكوميديا التي تفارق الرواية مفارقةً قاسيةً، محيلة إياها إلى نصّ عنيف مفعم بالبكاء والألم.
تأتي «حاسة هاربة» لتدلّ على تقدم أسلوبي ولغوي، تدور أحداثها في مخيّم نهر البارد، فلسطين الموقتة. المخيم الساكن على بحر طرابلس الذي كان هادئاً ومسالماً، احتلّته عصابة مارقة و«روح سوداء»، فسقط شهيداً وسط تقاطع النيران. تغوص الرواية في تاريخ تحوّل المخيم من مسرح لممارسات رقيب الاستخبارات «الأنيق صاحب الكرباج»، إلى مسرح لطوابير الأولاد يمثّلون دور الفدائيين ويغنّون أغانيهم كأنّما الحديث عن خيام غسان كنفاني التي «تفرق عن بعضها». صار الحي خندقاً والخندق سجناً والسجن مركزاً للثورة، قبل أن تختطفه الروح الشريرة فتحيله مسرحاً للموت المجاني.
في الفصل الأول، نتلمّس الفاجعة ويضعنا الكاتب في الجو العام قبل أن ينقلنا إلى جوهر المشكلة، راوياً اقتحام «الروح السوداء» لجسد المخيم واختطاف صورته. قد لا تكون الفكرة ومحورها، أي «الروح الطارئة السوداء»، جديدة على الأدب، كأنّنا نحكي هنا عن «أمنا الغولة» التي استوطنت في خربة في طرف القرية، وبدأت تتصيّد الأطفال. لكنّ الرواية تتشعّب لتحكي حكاية الناس المهمومين بسرّ وجودهم وعبثية الدوامة التي وجدوا أنفسهم في جوفها، يتمزّقون بين محاولات التفسير أو النجاة بالنفس والآخرين، محتاطين بمزيج من ذكريات هي آخر ما بقي لهم من زوّادة الصمود والاستمرار.
حكاية الفلسطيني المسكون بروح «اللاجئ». ومن لجوء إلى لجوء، يصير الشعب اللاجئ مهاجراً، ويصبح حريق المخيم استكمالاً لحريق القرية الأصلية، ونكبة نهر البارد استكمالاً لنكبة فلسطين. وتعيد الرواية قصّ حكاية النكبة قبل ستين سنة، كأنّ الزمن يدور في حلقة مفرغة، فيصبح البيت من جديد «في حقيبة» كأنّها «دعوة للرحيل» والبحث عن ملجأ آخر حيث يضيق المكان بضيوفه العابرين، فيتذرع بروح طارئة سوداء، ليطردهم قبل أن يطردها!
وتصبح الروح الخبيثة عابرة للزمان في إحالة لفقدان البيت الأصلي والأمان، وتصبح الأسئلة أيضاً عابرة للزمان «من عكر مزاج الآخر نحن أم هو؟»، «هل أنت شيطان عفريت؟ ملاك خير» (ص 44) كذلك، تصبح اقتراحات الأجوبة عابرة للزمن «هذا جنّ مسلم عصى ربه وصار شريراً، أو ربما هو جنّ يهودي يلحق بنا بعد أن سيطر على القرية» (44). هل هي «بلوة من السماء؟» (ص39) كلام ذلك الرجل يصبح صحيحاً عن العذاب الذي يستحقه اللاجئون! ولعلّ هذه الأسئلة ذاتها هي التي جعلت الضحية تنقسم على نفسها «من قال إنّها روح غريبة؟ من سكن بيتنا فهو ليس غريباً، ما غريب إلا الشيطان» (ص 54) وإذا كان هذا كلام الشيخ الضرير صاحب اللحية، فهو أيضاً كلام الشاب الأنيق صاحب البدلة وربطة العنق الأنيقة، «قد تكون هذه الروح ضالة ولكنها جزء منا» (ص54).
تصبح الروح السوداء مستوطنة منذ القدم، ولم تكن طارئة ولم تكن غريبة، وإنما هي ذلك الـ«هو» المتحيّن الفرصة، ليتصاعد من خبايا لا شعورنا ليفسد علينا ما ظنناه فرحة النضج وغواية الحكمة، مقاربة عنيفة لسخرية الواقع الذي يتجاوز الشعر.
تنعكس فنية الرواية جلية في الأنساق التعبيرية الجديدة التي اتبعها الكاتب والبناء الأسلوبي المبتكر، في تتابع لغة المتكلم بين الـ«أنا» والـ«نحن» في انعكاس مكثّف وتبادلي لانحلال التجربة الشخصية بالتجربة الإنسانية العامة. لا أريد القول إنّ «حاسة هاربة» دليل جديد على انبثاق الفينيق من رماده، أو إنّها تطمئن إلى أصالة الأدب الملتزم واستمرار الحاجة إليه. بل أذهب إلى القول إنّها مجرد دليل بسيط على إنسانية الإنسان الفلسطيني وكينونة اللاجئ الذي ما زال يحلم بالعودة إلى الغبسية (بلد الكاتب الأصلية في فلسطين) أو إلى أيّ مكان طرد منه أول مرة. رواية تعلي الصوت بضرورة مقاومة الغولة والضبع والنداهة والروح السوداء الطارئة والجنود، تعيد الاعتبار إلى إنسانية الإنسان بعد أن تناهشه الرصاص.