بيار أبي صعبأول ما يتبادر إلى الذهن لدى الاطّلاع على ردود الفعل الكثيرة التي وردتنا خلال يومين من قيام الشاعر المقدسي الشقي، زميلنا نجوان درويش، بإثارة قضيّة المجموعة القصصيّة التي قرر ناشر بريطاني إصدارها عن مدن من الشرق الأوسط، هو أننا لا نريد للنقاش أن يفلت من عقاله، ومن إطاره الصحّي والعقلاني. ليس هناك ما هو أسوأ من الغوغائيّة والعشوائيّة، وخلط القضايا والمفاهيم والإشكاليات. ليس أخطر من ضياع الحسّ النقدي الذي وحده يحمي الوعي العربي المأزوم، المحاصر بين خيارين، واحدهما أسوأ من الآخر: من جهة، «بارانويا المؤامرة» التي تستبدّ غالباً بالجماعات المقهورة، ومن الأخرى، الليبراليّة الجديدة التي تبشرنا بآفاق الخلاص: تبدأ بالتأفف من الخطاب النضالي، من التعصّب والأصوليات و«ثقافة الموت»، فإذا بها تأخذنا من حيث لا ندري إلى أحضان... «الشرق الأوسط الجديد». أي إلى «سلام شيك» و«تطبيع شيك» مع العدوّ الإسرائيلي.
لا يسعنا، أولاً، سوى أن نشعر بالراحة والاعتزاز ونحن نكتشف أن الشاعرة اللبنانيّة جمانة حدّاد تتعامل بحذر مع الفخ التطبيعي ـــ وهذا ليس غريباً عن شيمها ـــ لكنّها وقعت فيه رغم ذلك! ليس الهدف أساساً اتهام الأشخاص، أو الإساءة إلى هذا الكاتب أو ذاك... بل مساءلة المشروع من أساسه، والتساؤل حول خلفياته، وأبعاده المباشرة أو غير المباشرة، المقصودة أو غير المقصودة. يبدو أن الناشر Comma Press (جماعة تأسست في مانشستر العام 2004، على يد Ra Page و Sarah Eyre وMaria Crossan، للدفاع عن القصّة القصيرة، وإذا بها تبحر إلى الشرق الأوسط)، أصرّ على إقحام كاتب إسرائيلي في الأنطولوجيا التي تضم كتّاباً من المشرق العربي، وأن محرّرة الكتاب اللبنانيّة رفضت الأمر جذريّاً، إلى أن أتى زميلنا الكاتب علاء حليحل وأدلى بشهادته في هذا الكاتب التقدّمي... فرُفع الفيتو وارتاح ضمير الجميع.
لدينا مطلق الثقة بعلاء، وهو شاهد من أهله. كما اننا لم نكتشف مساء البارحة المثقفين التقدميين في اسرائيل. فنحن نعتز بوجودهم ـــ على ندرتهم للأسف ـــ ونمد لهم يد الاحترام والثقة! لكن من قال إن المشكلة هي إسحاق لاؤور؟ نحترم الشاعر الإسرائيلي الذي يملك من النزاهة والشجاعة ما يكفي كي يسدد إصبع الاتهام إلى الآلة الهمجيّة، السبارطيّة، التي تتسابق الحكومات الغربية والأنظمة العربيّة على تبييض صفحتها، وتبرير جرائمها. ولعلّه، بهذه الصفة التقدميّة، وقع في الفخ مثل علاء، وأي كاتب عربي آخر! السؤال الذي نطرحه هو عن مغزى وجدوى ومعنى وضرورة وأهميّة (وماذا بعد؟)، إقحام تل أبيب بين الاسكندريّة وبغداد وبيروت واللاذقيّة وعكا والرياض؟ وإلى أي مدى يمكن اعتبار خيار «الشرق الأوسط» بريئاً ومحايداً؟ هل نقول كلاماً طلسمياً إلى هذا الحدّ؟ ألا يسعكم أن تفهموا يا جماعة؟ هل تريدون إقناعنا بأن وجود تل أبيب بين مدننا وقصصنا، مجرّد تفصيل بسيط لم يكن يستحق كل هذه الضجّة؟