بيار أبي صعبكان في الثامنة عشرة عندما غادر لبنان، في عام الاجتياح الإسرائيلي (١٩٨٢). عاش راوي الحاج متشرداً في نيويورك، حيث اختبر الفقر والغربة وأعمال السخرة. وهناك ولد أيضاً من جديد. بعيداً عن لبنان، بلد الطفولة الصعبة التي سرقتها الحرب.
راوي الحاج اليوم كاتب مكرّس، نال جوائز عدّة أبرزها أخيراً جائزة «امباك دبلن» العالمية للآداب في إيرلندا، متقدماً على فيليب روث.... كل ذلك من خلال رواية واحدة. «لعبة دي نيرو» كتبها بالإنكليزيّة وترجمت إلى لغات عدّة، آخرها الفرنسيّة في باريس (دونويل). «رائحة الغبار» في ترجمة فرنسيّة سابقة (كيبيك)، و«الخيار المؤلم» في العربيّة، حيث صدر الكتاب عن «الشركة العالمية».
رائحة الحرب خصوصاً. تلك التي لم تفارق وجدانه بعدما صار مواطناً كنديّاً، وامتهن التصوير، وحاز شهادة الماجستير في الفنون البصرية والفوتوغرافية من جامعة «كونكورديا». تلك الرائحة حملها في نيويورك ١٨ عاماً، ثم أخذها إلى مونتريال، لتتمخّض عن رواية قويّة، شديدة الخصوصيّة، ربّما لأنّها كتبت بعيداً عن المعمعة، في حالة قطيعة (برّانيّة) مع اللغة العربيّة التي لم يعد إليها النصّ إلا مترجماً. هذا اللجوء الثقافي، الأدبي، الألسني، يعطي في بعض الحالات حريّة وصدقاً لا نتصوّرهما في التعامل مع الكابوس الأصلي (كما نقول خطيئة أصليّة). كابوس أن تكون ولدت لبنانيّاً، في الحرب الأهليّة. أعماله الفوتوغرافيّة أيضاً مسكونة بهاجس الحرب والمنفى.
راوي ابن الأشرفيّة وتلميذ الحكمة، يسلّط نظرة نقديّة قاسية إلى البيئة التي خرج منها. يتوقّف عند تورّط ميلشياتها في الحرب، وصولاً إلى مجازر صبرا وشاتيلا. علاقة صداقة بين مراهقين بسّام وجورج، في تلك السنوات المجنونة والهاذية. هنا ستفترق مصائرهما: الثاني يستسلم لإغراءات الميليشيا ويمضي إلى الأسوأ، والأوّل يأخذ طريق المنفى... عالم كامل تنبعث منه حالات الحيرة والألم والضياع والخوف التي يعرفها كثيرون بيننا. راوي الحاج كاتب لبناني آخر ولد من رحم الحرب.