يطلّ المخرج المخضرم هيلي غيريما بعد غياب، مع فيلم إشكالي، يستعيد محطة دامية من تاريخ النضال الإثيوبي ضدّ الاستعمار... فماذا عن «تيزا»؟
البندقية ـــ عثمان تزغارت
بعد ثلاثة مواسم متتالية من الغياب عن المهرجانات السينمائية الكبرى، تسجّل السينما الأفريقية عودتها إلى «الموسترا» هذا العام، عبر فيلم إشكالي ومميز بعنوان «تيزا» للمخرج الإثيوبي المخضرم هيلي غيريما. وهو يسجل هنا أيضاً عودته بعد طول غياب. عمل الروائي الأخير «سانكوفا» يعود إلى عام 1993. وبعدما قدّم، في عام 1999 شريطاً توثيقياً بعنوان «عدوى»، عن «معركة عدوى» التي تعدّ أبرز محطات النضال التحرري الإثيوبي ضد الاستعمار الإيطالي، ها هو يعود إلى السينما الروائية بعد خمسة عشر عاماً، ليصوّر محطة دامية أخرى في تاريخ بلاده. ألا وهي انقلاب الكولونيل مانغيستو هيلي مريام على الإمبراطور هيلاسي لاسي، محرّر إثيوبيا من الاستعمار، ومؤسس دولتها الحديثة.
ومن المعروف أن هيلي غيريما الذي يعيش منذ عام 1968 في الولايات المتحدة حيث يدرِّس السينما في جامعة كاليفورنيا، مثّلت أعماله ــــ من الساعة الحائطية (1971) إلى «ما بعد المطر» (1982)، مروراً بـ«3000 سنة» (1985) و«الجمر والرماد» (1982) ـــ روافد مرجعية، أثّرت في أجيال عدة من السينمائيين، ليس في أفريقيا فحسب، بل أيضاً من السينمائيين السود الأميركيين، باعتراف أشهرهم: سبايك لي. لكن غيريما ظلّ، على رغم كل الإغراءات، بعيداً عن الـ«إستبلشمنت» السينمائي الأميركي، مؤكداً، مرة بعد مرة، أنه متمسك بهويته كـ«مخرج عالمثالثي مستقل».
جمهور «الموسترا» استقبل فيلم غريميا الجديد بكثير من الحفاوة والتصفيق، على رغم موضوعه الإشكالي. إذ شابه نوع من النوستالجيا الملتبسة إلى عهد الإمبراطور المؤسس هيلاسي لاسي، على رغم كل ما اتسمت به الفترة الأخيرة من حكمه من شطط وتسلط.
وتُذكِّر بعض ردود فعل النقاد هنا في «الموسترا»، بعد مشاهدتهم فيلم «تيزا»، بالجدل الذي أثير حول فيلم Underground للسينمائي البوسني الكبير أمير كوستوريتسا (السعفة الذهبية في «كان» ـــ 1995). إذ اتُّهم بمعاداة أبناء شعبه الذين كانوا آنذاك عرضة لمجازر التطهير العرقي على أيدي الصرب، لمجرّد أن بعض شخوص فيلمه عبروا عن الحنين إلى عهد الماريشال تيتو، أيام كان التآخي سائداً بين اليوغوسلاف كافة، على اختلاف أعراقهم. وقد بلغ التأثر آنذاك بأمير كوستوريتسا إلى حد إعلان اعتزاله السينما نهائياً، قبل أن يعود عن قراره لاحقاً، مفضّلاً الرد على منتقديه برائعته «قط أسود، قط أبيض» (الأسد الفضي في «الموسترا» ـــ 1998).
أما هيلي غيريما، فليس من عادته الاهتمام بما يقوله النقاد، فهو تعوّد أن يقول كلمته ويمضي. وحتى لو قرّر الاعتزال يوماً، فإنه لن يعلن عن ذلك، كما فعل كوستوريتسا بتلك الطريقة المسرحية. لم يسع غيريما إلى تلميع صورة الإمبراطور هيلاسي لاسي، بل اكتفى بتقديمه في صورة إنسانية، تذكّر بالبورتريه الإشكالي الذي قدّمه كيفن ماكدونالد عن «إمبراطور» أفريقي آخر هو الأوغندي عيدي أمين دادا، في رائعته «آخر ملوك اسكتلندا» (2006). وقد أبدع الممثل آرون عريفي في تقمّص شخصية هيلاسي لاسي.
بصفاء الرؤية المعروف عنه، قدّم غريميا هنا قراءة نقدية شجاعة لتاريخ بلاده على مدى ربع القرن الماضي. ولم يتردد في السباحة عكس التيار، قائلاً: «أن يأتي شخص يسمي نفسه «ثورياً» ليطيح من السلطة حاكماً كان يلقب نفسه بـ«الإمبراطور»، لا يعني بالضرورة أن الأول «تقدّمي» والثاني «رجعي». لقد بيّنت الأحداث أن من جاؤوا بعد هيلاسي لاسي كانوا أسوأ منه. إذ حطّموا، في سنين قليلة، كل ما بناه من منجزات منذ الاستقلال، ثم زجّوا بالبلاد في الفقر والمجاعة والحروب الأهلية بلا نهاية...».
ولا شكّ بأن المشاهدين في أكثر من بلد عربي، سيشعرون عند مشاهدة هذا الفيلم، وكأنه يتحدث عنهم!