طلال حيدر يوجّه تحيّة إلى عبده مرتضى الحسيني (1918 ــ 2007) في ذكرى رحيله الأولى. الشاعر اللبناني المعروف يستعيد ذكرياته مع المثقّف النموذجي الذي كان يفعل غير ما يشاء البيك والدرك، ومع المناضل الفريد من نوعه الذي كان يجهد بانياً لتلامذته جسراً إلى العالم الجديد
طلال حيدر
يحدث مرّة واحدة، أن سيّداً ومرتضى وحسينيّاً، بقي مؤمناً بالماركسية اللينينية حتى بعدما خانها عاشقوها في عقر دارها وفي كثير من أنحاء الأرض. كان ينفض عن كتفه غبار الهالة المقدّسة وإرث السيادة والنسب الشريف ليبقى هاجسه: المعذبون في الأرض. صدّقته بعلبك وأحبّته كلها...
ولا مرّة قال أنا، وما فعل شيئاً من أجل نفسه حتى عاقر الفقر في بلد لا يعلّقون فيه الأوسمة إلا على صدور الأغنياء أو توابيت الفقراء، في بلد لا يستمعون فيه إلى العرّافين بل إلى لصوص الهيكل.
كانت لديه شجاعة اختراق المقدّس وهو الآتي من بين دفّتي القرآن، أباً عن جدّ. كنّا نتجادل في قصص الأنبياء وفي معاني الآيات الملتبسة وفي الإسرائيليات، كان يرفض ما لا ترتضيه ديالكتيكيته المادية فأرتعبْ! لأننا، كلّنا ما عداه، كنّا ولا نزال لا نتجرأ أن نمسّ المقدّس ولا نملك شجاعة ولوج الأبواب الموصدة. لم أكن أجرؤ على نقاشه مخافة أن تنهزم مسلّحات إيماني البديهية أمام طغيان حرية عقله الاقتحامية. علّمني أنّ علينا إعادة فهم النص على ما يستجد من معطيات العقل العلمي. عمّر لنّا السيّد عبده، نحن مدّعي الثقافة في بعلبك، جسراً لنعبر عليه إلى العالم الجديد.
كنت صبياً أول مرّة شاهدته حاملاً المناشير، هارباً من الجندرمة الذين يتعقّبونه بالبواريد، قاطعاً نهر رأس العين، داخلاً بستان آل الزين واصلاً إلى الحارة الفوقا ومختفياً في الزواريب، وأنا الصبي المدهوش أسأل: ليش لاحقينه؟ شو عامل؟! والجواب: شيوعي! شيوعي ومن سلالة رسول الله؟ أجابني: لينين كمان خان طبقته!
سحرني ذلك الرجل لأننا كنّا مخدّرين في ذلك الزمان بالبيك الذي يوحي إلى الدرك فيفعلون ما يشاء، أما السيّد عبده فيفعل ما لا يشاؤون كلّهم. كان يترشّح للانتخابات لا ليفوز بالنيابة أو ينعم بالوجاهة بل ليعلّق بيان الحزب المحظور على الجدران، وكانت تلك البيانات الأوراق الوحيدة الشريفة التي تعلّق على جدران بعلبك.
وكانت تقلقهم صورته فيمزقونها ولا يدرون أنهم كانوا يمزقون بأيديهم أيامهم الآتية. سامح الله الجندرمة الذين وظّفهم البكوات!
كان يعلم أنهم سيرفضون ترشيحه وأن الساعة لم تأتِ بعد، ولكنه كان يلقي حجراً في بركة الزمن الآسن علّه يحرّك الساكن ويُسرّع الآتي. كنّا جيراناً، وكان أستاذي في ابتدائية الرشدية، كان يتغيّب كثيراً. عرفت فيما بعد أنّ غيابه كان مناوبة بين النظارة والسجن والاختباء فتعلمت أن هناك سجناً للشرفاء أيضاً والسلطة غالباً في العالم الثالث عدوّة الشعوب. كلّهم دكتاتوريّون وكلّنا عبيد نحلم بالعدالة والعدالة في بلادي كالأفعى لا تلدغ إلا الحفاة.
كنّا جيراناً، يوم كانت بعلبك حارات من المحبّة قبل أن تصبح مطارح من الغربة. كانت أمّه رحمها الله، طاهرة يقطف النور من ملاءتها، وكانت زوجته الكولومبية التي أورثت جمالها لابنتيها، دهِشَة لمدينة كانت تضاء بيوتها بالفوانيس في زمن لا يتزوج فيه السيّد إلا من شجرة العائلة المقدّسة. كان أخوه السيّد سعيد، يسير على طريق رأس العين كشبح أبيض من الكوفية البيضاء إلى المشاية القلجية.. وكان السيّد عبده يرتدي ثياباً نظيفة لا يتذكرها أحد، لأنه كان يرتدي دائماً وجهه الساهم الضحوك..
اخترته أستاذاً لي، كان يدلّني على طريق المادية الديالكتيكية، وكانت أمي رحمها الله تقول له: تروك هالصبي، خلّي يعملّو ركعتين، بلا ما يطلع شيوعي متلك.. لا يذكّرني به إلا زياد الرحباني.. فالرسوليون، يتشابهون في كل الأزمنة. وزياد غاوي فقر، يهرب من الربح كأنّه سرقة!
كان السيّد عبده يسير عكس الزمن السائد وضد التيار وما كرهه أحد لأنه كان صادقاً وشفّافاً طيلة عمره. عرفنا غيره من الماركسيين في بعلبك، وما أحبّهم أحد.
كانت الدولة تتعقّب المفكرين والفكر المحظور فأصبح المفكّرون يتعقّبون الدولة بفضل الروّاد الأوائل وأوّلهم السيّد عبده مرتضى الحسيني.
أنا لا أعرف في كل بعلبك رائداً غيره وقد تجاوزتُ السبعين فهل تغيّر الزمان أم قلّت الرجال؟!
سنة 1955 أعطاني خمسمئة ليرة لبنانية لأنقل إلى العربية شاعرين من أوروبا الشرقية (نيكولا فوبتساروف وكريستو بويفا) N.V وC.B. كان راتبي 120 ليرة تذهب للمرابين فما تركت موبقة إلا فعلتها بتلك الفلوس. رحم الله السيّد عبده ورحم الـ500 ليرة ورحم أوروبا الشرقية ورحم ذلك الزمان.
لقد أعادني العمر تلميذاً لهذا الذي اختارني يوم كنت طفلاً أن أكون تلميذه. علّمني أن غيفارا الحيّ مثل غيفارا الشهيد. أذاقته الدنيا كؤوساً مرّة كثيرة تجرّعها كلّها ولم يتأفّف.
كان مطعم العجمي يجمعنا في أيامه الأخيرة. كنت أبحث عنه. أخاف أن يطفأ آخر قنديل في عتمة بعلبك. يا سيّد عبده عندما كتبت «وحدن» التي لحّنها رفيقك زياد وغنّتها فيروز، لم أكن أدري بعد تلك السنين أنني وضعتها لوداعك:
يا ناطرين التلج
ما عاد بدكن ترجعو
صرّخ عليهن بالشتي يا ديب
بلكي بيسمعو...


«سيّد المناضلين» عبده مرتضى الحسيني كان يمتلك أكبر مكتبة خاصة في الشرق. للاستعلام أو للمساهمة في تحويلها إلى مكتبة عامة، تمكن الكتابة على العنوان التالي:
[email protected]