أعماله الكاملة بالعربية عن «دار النهار» حسين بن حمزة
قبل أيام قليلة، كان الشاعر اللبناني مروان حص الذي يكتب بالفرنسية اسماً مجهولاً. ليس لقراء الشعر المكتوب بالعربية فقط، بل حتى لمحيطه الفرنكفوني أيضاً. باستثناء مقالين كتبهما الشاعر أنطوان بولاد والمترجم أنطوان جوكي العام الماضي، لا نجد ذكراً له. حين نتصفح أعماله الشعرية الكاملة، الصادرة عن «دار النهار» (نقلها عن الفرنسية أنطوان جوكي)، نُدهش لأنّ هذا الشاعر تأخّر في الوصول إلينا كل هذا الوقت. ونُدهش أكثر حين نعرف أنّ اسمه لم يحضر في جميع الأنطولوجيات التي خُصِّصت للشعر الفرنكفوني اللبناني والعربي. أما الدهشة الأكبر فمردّها أنّ الرجل شاعر حقيقي يستحق أن يُقرأ بالحفاوة التي تليق بالشعرء الكباربدأ مروان حص الكتابة في بيروت. نشر ديواناً صغيراً بعنوان «شغف» (1966) مع مقدّمة للشاعرة نادية تويني. ثم غادر إلى باريس للدراسة سنة 1968، ولا يزال مقيماً هناك. تخلّى عن ديوانه الأول. يقول: «كنت في الثامنة عشرة حين كتبته. كرهته لاحقاً لأنّه كان عبارة عن وجدانيات غير مشدودة، فضلاً عن وجود تأثيرات مباشرة لقراءاتي في تلك الفترة». في باريس، كانت بدايته الفعلية. عثر على النبرة التي كان يسعى إليها. والأهم أنّه اهتدى إلى طريقة يقول فيها الكثير من الشعر، في أضيق مساحة ممكنة.
ذات يوم، مطلع السبعينيات، أرسل مخطوط «الرامي المنعزل» إلى رينيه شار، فما كان من الشاعر الفرنسي الراحل الذي طالما عدّه حص أحد معلّميه البارزين، إلا أن أعجب بالديوان. وكتب توصية بنشره لدى دار GLM التي كانت تنشر دواوين كبار السرياليين في فرنسا. البداية القوية ومساندة شار عزّزتا ثقة الشاعر الشاب بنبرته. لكن ذلك زاد رُهابه من الثرثرة اللفظية والاستطراد اللغوي.
يكتب مروان حص قصيدة مفرطة في كثافتها. يكفي للقارئ أن يعرف أنّ أعماله الكاملة تحتوي على 116 قصيدة فقط، وكل واحدة لا تتجاوز بضعة أسطر، كيف يفهم عن أي كثافة نتحدث. يزهد هذا الشاعر في استخدام الكلمات، إلى حد يُظنُّ فيه أنّه يكتب بالممحاة بدلاً من القلم... أو أنّه يكتب ويمحو في آن معاً، تاركاً للقارئ من القصيدة أقلَّها، ومن المعنى أكثرَه. لا يكتب مروان حص قصيدة قصيرة كما قد يُفهم لأوّل وهلة. ما نقرأه أشد كثافة وأكثر حدّة من هذا الوصف. إنّها صور واستعارات خالصة. الصور التي عادةً ما نعثر عليها متفرقة ومدسوسة هنا وهناك في ثنايا ما نقرأه من قصائد، نجدها هنا منفردة ومكتفية بذاتها. كأنّ الشاعر حذف السطور والكلمات التي تسبقها والتي تتلوها أيضاً، لكي تواجه القارئ وحدها. لا زوائد ولا ثرثرة بلا معنى. القصيدة هنا أشبه بالمنحوتة التي يتخيّل النحات أنّها داخل صخرة، وأن كل ما عليه فعله هو استخراجها منها.
السعي إلى قصيدة مقتضبة يصعِّب علاقة الشاعر مع نصه. التطلُّب المفرط يقلل المحصول الشعري في النهاية. النوع يحضر على حساب الكم. هذا ما يحدث في تجربة مروان حص الذي أصدر خمس مجموعات شعرية صغيرة على مدى 33 سنة. الأولى بعنوان «الرامي المنعزل» (1971) والأخيرة بعنوان «تمزقات» (2004). سعيه إلى الاقتضاب والكثافة انسحب على مجموعاته ذات الصفحات القليلة: «أحب قراءة كتبٍ/ غائبة كتاباتُها/ وصفحاتُها بيضاء». يتوقف القارئ عند هذه القصيدة ليتساءل إن كانت مقترحاً لتعريف الشعر. إنّها تفسر لِمَ لا تحتلّ قصيدته إلاّ حيزاً ضئيلاً في صفحات دواوينه.
هل يوافق على أنه يعرِّف شعره في هذه القصيدة؟ يجيب: «هذا صحيح. إنها تصلح كتعريف ما. منذ فترة، طلبت مني دار Arfuyen أن أشارك في أنطولوجيا يعرّف فيها كل مشارك الشعر حسب رأيه. بدلاً من أن أرسل تعريفاً للشعر، أرسلت لهم ثلاثاً من قصائدي». لا نعرف ما هي القصائد الثلاث التي اختارها الشاعر، لكنّ القارئ يستطيع أن يختار قصائد عديدة تقوده إلى المغزى نفسه: أي كتابة الشعر والكشف عن «وصفته» في آن واحد.
ربما لا تكون كل القصائد بمستوى واحد. قد نفضِّل بعضها على البعض الآخر. لكنّنا لا نستطيع تجنّب تلك الطاقة الشعرية الهائلة المدفونة في كل سطر فيها. إذْ ماذا نسمي هذا المقطع: «مهمٌّ/ للبحر الأصم/ واللؤلؤة البكماء/ أن يكون الغطاس ضريراً». وهذا أيضاً: «ردعتُ النهار/ عن تقصير لياليَّ/ كي يُسمح للنجوم/ السير في أحلامي».
نسأله عن هذا الإصرار على الذهاب إلى اللغة والعودة بالأقل اللامع. كأنّ قصيدته هي ابنة الصمت والتأمل الفلسفي العميق «هذه هي نظرتي إلى الشعر عموماً، وليس إلى شعري فقط. التساؤل الفلسفي والوجودي هو مصدر كل شعري. أنا لا أستطيع أن أفهم الشعر خارج الاقتضاب والتأمل. سأصارحك بأمر آخر: تصور أنّ كل قصيدة أكتبها أحس أنّها ستكون آخر قصيدة. لعل هذا يوضِّح أكثر لماذا أعاني من وسواس الكثافة». الصورة الشعرية الواحدة المكتوبة بضربة أسلوبية واحدة أيضاً، تذكّرنا ببعض نماذج الهايكو الياباني. يقول: «ربما قِصَر قصيدتي يستدعي هذا الشبه. في الواقع هناك فرق كبير. أنا موافق على وجود الكثافة ووحدة الأسلوب في الحالتين، لكن الموضوعات والتقنية تختلفان».
تتكرّر مناخات الغياب في أعمال مروان حص. في المقدمة التي كتبها أنطوان جوكي لأعماله، يشير إلى تأثير موت والدة الشاعر المبكر الذي لعب «دوراً حاسماً في تأجيج حساسيته ووضعه على درب الكتابة، وطبع شخصيته بكآبةٍ وبصيرةٍ تجلّتا في جميع دواوينه». يعترف الشاعر بأنّ مرض أمه هو الذي خلق في داخله رغبة الكتابة، وأنّ رحيلها تحوّل من جرح شخصي إلى جرح شعري: «كانت لا تزال شابة في الثامنة والثلاثين، وأنا في الخامسة عشرة. أدخلني مرضها في حالة نفسية معقدة. كانت الكلمات وسيلتي الوحيدة للاتصال بها. كنت أهرع إلى السرير الذي تُحتضر عليه وأريها ما أكتبه». مفردات الموت والصمت والغياب تتسرب إلى قصائد عدّة، بينها واحدة أهداها الشاعر إلى أمه. الغريب أنّها أطول بكثير من مثيلاتها.
يعترف مروان حص بأنّ الكتابة مباشرة عن رحيل أمه ظلّت تلاحقه إلى أن كتب تلك القصيدة قبل أربع سنوات. «غيابها ترك أثراً حتى على أسلوب حياتي. أدير غاليري شهيرة في باريس، ولديّ علاقات مع أهم الرسامين والشعراء، لكني لا أجتمع بهم إلا في مناسبات قليلة. أحب العودة إلى عزلتي وشقتي المكونة من غرفتين فقط».

الشاعر المنزوي متورّطاً في صخب الرسمكان حص قد أصدر للتوّ مجموعته الأولى حين تعرّف إلى الفنّان بيار سولاج وارتبط معه بصداقة وثيقة في مكتبة Le Soleil Dans La Tête التي كان يتردّد عليها نخبة الكتّاب والفنانين، وكان حصّ يعمل فيها إلى جانب دراسته الجامعية.
في عام 1976، دعاه سولاج للعمل في «غاليري فرنسا» العريقة التي تحتل مبنى يتألف من ثماني طبقات في باريس. في البداية، أدار مروان حص قسم الصور المطبوعة، ثم عُيِّن مديراً عاماً للغاليري عام 1978.
الشاعر الخافت المعروف بقصيدته الصامتة وقلة إنتاجه الشعري، أظهر نشاطاً وحيوية عالية في عمله الثاني، وكشف عن موهبة نادرة وحس تجاري مميّز في الوسط الفني الفرنسي. وتمثّل جزء من نجاحه في اكتشاف وتقديم عدد من الرسامين الشباب الذين صاروا أسماءً لامعة لاحقاً، ومن هؤلاء نذكر: خوليو غونزاليس وزوران مزيك وبابلو غارغالو وزاو وو ـ كي.
نجاحه اللافت مع سولاج شجّعه على تأسيس غاليري خاصة به. وهو ما حدث فعلاً سنة 1981. نقل حص تجربته السابقة لتكون أساساً لخطوته
الجديدة.
اشتهرت الغاليري بسرعة وصارت من أرقى المؤسّسات الفنّية العاملة في مجال الرسم الحديث والمعاصر. حين نعرف أنّ الغاليري استقبلت معارض شخصيّة لجياكوميتي وفرانسيس بيكون وآرشيل غوركي وهانز هارتوغ وجوزيف هايدن... يتأكد لنا الموقع المميز الذي تحتله غاليري مروان حص في عالم الفن وسوق الرسم. الشاعر المنزوي تورّط في صخب الرسم، لكنّه عرف كيف ينجو حين طبع نشاطه الفنّي بمزاج الشاعر.

www.marwanhoss.com