من أوشفيتز إلى كفرقاسم ودير ياسين نوال العلي
كانت مدهشة رؤية التجهيز الفراغي يتجسّد على المسرح قبيل الافتتاح. الجمهور لن يراه وهو يعلَّق قطعةً قطعةً بهذه الأناة والصبر والدقة، سيشاهده وقد اكتمل. لكن لا، إنه ليس مكتملاً بعد، مصممة المسرح ومبدعة العمل الاسكتلندية جاين فريري، تقول ذلك. يبدو أنّ جماله في نقصانه، فهو، وإن مُثِّل الآن برؤية فنية ممسرحة (إخراج عبده نوّار) على الخشبة، لن يكون على حاله بعد شهور. لكن سيزداد حجمه، وربما تضاعف. كل ذلك يعتمد على ترحال فريري بشخوصها المجسّدين في التجهيز. ففي كل مدينة تعرضه، سيكون هناك مَن يزيد شخوصاً أخرين... هذا العمل سيكون رائعاً حين يصبح ضخماً، لأنّه يتحدث عن ألوف هجرتها النكبة.
في التجهيز، 3200 مجسم لشخوص فلسطينية تتدلى من خيوط رفيعة، الخيوط مربوطة في شبكة مهندسة بدقة ومعلقة في سقف مسرح «دوار الشمس»، حيث افتُتح تجهيز «عودة الروح» أخيراً، في الذكرى الستين للنكبةشارك في صنع هذا التجهيز الفراغي شباب وشابات فلسطينيون من لبنان، دُرِّبوا في ورش عمل متخصصة على تقنيات تجسيد فكرة فريري، وهي نحت مشهد الخروج الفلسطيني الأول 1948 من خلال تجسيم الجموع الفارّة من منازلها وقراها. وباستخدام أسلاك رفيعة جداً لا تتجاوز سماكتها 30 مليمتراً، بُني هيكل عظمي، ثم لبّس الهيكل ورق «الكريب» الذي يفصّل عضلات الجسد وأعضائه وتفاصيله. أما الملابس فتحضر من الورق، وتُصمَّم كما هي الأزياء الشعبية الفلسطينية في الأربعينيات، ثم يتحوّل هذا كله إلى قالب شمع يترك بلونه الأصلي رمزاً للصمت.
المجسمات صغيرة جداً، بحجم راحة اليد. وقد لا يكون هذا التوصيف دقيقاً، نظراً إلى السنتمترية المنضبطة في حرفية العمل، فكل شيء محسوب، والرياضيات تعلن وجودها بقوة في هذه القطعة الفنية، ولا سيما بوجود خريطة على الأرض تتبعها الفنانة لتعلِّق المجسمات على شكل موجة من الفلول البشرية، تتحرك بمسيرة حزينة، تضفي عليه الإضاءة في مسرح بجدران سوداء طابعاً جنائزياً. حين عرض هذا العمل في الحوش في فلسطين 15 في أيار (مايو) الماضي، كانت الجدران بيضاء. وعلى ذلك، تعلق فريري: «إذا عُرض بين جدران بيضاء، يكون العمل تجهيزاً فراغياً فقط. لكنه هنا في هذا السواد قطعة من المسرح وتجهيز أيضاً. لقد صُمِّم ليعرض على خشبة سوداء».
حقاً إن هذا العمل الفني جماعيّ، لكنه فرديّ في الوقت نفسه. ألا يشعر الفنان بالأنانية تجاه ما يصنعه؟ كيف يحقق هذا العمل الذي تكوِّنه أيدٍ كثيرة الرضا لدى فريري؟ إنها هي مَن ابتكر العمل، والاستراتيجية المحكمة التي وضعتها تجعلها سيدته بلا منازع: «أنا أقرر كيف يصنع ويوضع ويعلَّق ويكون وليس غيري». لكنّ هذا النوع من الأعمال خطر على إبداع الفرد والجماعة، فهو يضيّع هوية الأصابع التي صنعته، ويتوازى فيه العمل الجميل المتقن مع البسيط والمشوه والخاطئ، فقدرات كل واحد صنعَ مجسماً تختلف عن الآخر. لعلّ العمل في صيغته النهائية منسوب برمته إلى الجمال، والتفصيل البشع وغير المتقن فيه جزء من جماليته.
لحظة التاريخ المجهزة فراغياً يقابلها سند شفويّ. إنّه التاريخ مرويٌّ على لسان شخصيات ممن عاشوا تجربة النكبة، وما زالوا يقيمون في المخيمات، وهم أقرباء الفنانين صنّاع العمل، أجدادهم، آباؤهم، أقرباؤهم. هذه الجزئية المرويّة في «عودة الروح» أشرف عليها مركز المعلومات العربي «الجنى» من خلال بشرى المغربي: شهادات سُجلت وعُرضت ليلة الافتتاح، وفيها سُئل هؤلاء الشيوخ والمسنّات عن ملابسهم حين فروا. ماذا أخذوا؟ وكيف مشوا؟ وكم كانت أعمارهم؟ وقد مثّلت هذه التساؤلات أساس المجسّمات، وصارت لكلِّ مجسم هوية.
لماذا تعلِّق فريري الفلسطينيين بين السماء والأرض؟ لماذا تمنحهم الفراغ مكاناً؟ لأن امرأة فلسطينية رأت حلماً، وتحدثت عنه في فيلم تسجيلي (بتوقيع السوري محمد ملص). شاهدته فريري وأرعبها الحلم الذي رأت فيه المرأة أهلها معلقين من أكتافهم بملاقط، وكان تفسير تلك اللاجئة لمنامها أن هذه هي حال الفلسطينيين.
والقصة أيضاً حدثت قبل ذلك بكثير، حين عملت جين على أحد مشروعاتها الفنية في بولندا، وكان أن زارت متحفاً أقيم في موضع معتقل «ماجدانيك» النازي حيث جُمع اليهود إبان الحرب العالمية الثانية، قبل أن يساقوا إلى معسكرات الموت. هناك، رأت أحذية، وألعاباً، وبقايا ملابس، وشعراً، ورماداً أيضاً، كانت كل تلك آثار من ضحايا المحرقة. زارت جين المتحف مرات عدّة، ولم تصدق ما رأته. حتى إنّها في آخر زيارة لها، رأت يهوداً بدا أنّهم فقدوا أقرباء هناك، فتقدمت منهم وشاطرتهم الحزن، لكنها لمحتهم يغرسون أعلاماً إسرائيلية في الحديقة، «صدمتني الصورة، أعرف هذه الأعلام البيضاء والزرقاء جيداً، إنها ملطّخة بالدم منذ اختلاقها».
مَن هؤلاء الفلسطينيّون؟ «إنّهم ضحايا ضحايانا نحن الأوروبيين!». كان لديها شعور جمعي بالذنب، وبدأت مسيرة البحث. لكن كيف لبحوث تستند في أغلب وثائقها إلى الرواية الإسرائيلية أن تصدق القول في ما يتعلق بالجانب الفلسطيني؟ تقول فريري: «لجأت إلى مؤرخين إسرائيليين، بني موريس وإيلان بابه، وقلت لنفسي سأسمع منهم، ثم سألجأ إلى الأرشيف وألتزم بالوثائق. هكذا سأكون آمنة، والتقيت أيضاً بالمؤرخ الفلسطيني وليد خالدي».
بعد هذا البحث النظري، سافرت جين إلى فلسطين، حيث استمعت خلال زياراتها للمخيمات إلى الرواية الشفهية التي أثبتت صدقيتها وتحقّقت الفنانة الباحثة مما عرفت. ورغم ذلك، ما كادت تصدق روايات المذابح الفلسطينية. كانت تقول لنفسها: «هل من المعقول أن اليهود ضحايا الهولوكوست والمذابح، يرتكبون هذه المذابح؟ لا يعقل. الضحية أصبح لها ضحايا». بعضهم قد ينتقدها على هذا التفكير الذي طرحه إدوارد سعيد، اسم تستشهد به فريري كثيراً. لكنها خاضت تجربتها وصنعت فناً يشبه كرة الثلج التي أخذت تكبر وتكبر «لقد سلب مني العمل حياتي، أحياناً أتساءل: بِمَ ورطت نفسي؟ أشتاق لبلادي وأمي، ولكنّه فني، وليس لدي رسالة. على كل شخص أن يجد رسالته حين يشاهد العمل».
قبل «عودة الروح»، اشتغلت فريري في تجهيز فيديو ثلاثي عن النكبة عرض في «مهرجان ماسكي للمسرح» في بولندا (2006)، إلى جانب عرض أدائي لـ«مسرح القصبة». ثم قُدِّم «عودة الروح» في معرض الكتاب في أدنبرة، مباشرة بعد القدس. ومن يبروت، سينتقل إلى دمشق فعمّان... وأخيراً يعود العمل بروحه ومجسّماته إلى القدس، ليستقر في متحف «الذاكرة». وبذلك يعود أبناء النكبة إلى القدس. كأن هذا العمل حصان طروادي وهمي بجنود متعبين من شمع.


«عودة الروح» : حتى 3 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل ــــ مسرح «دوّار الشمس» (الطيونة) : 01/381290


أكبر ظلم في تاريخ القرن العشرينبعض النقاد قالوا إن العمل لا يستعيد النكبة الفلسطينية، لكنه يؤكد حقيقة أنّ اليهود لا يملكون فعلاً الحق في تقرير مصير دولتهم إسرائيل، الأمر الذي لا تفهم صاحبة العمل كيف يمكن ربطه بفنها المخصص لفهم حقيقة ما حدث لأناس شردوا من منازلهم وحياتهم.
الفنانة دافعت بأنه لا الفلسطيني شحادة ولا الإسرائيلي بابه لهما دخل في مشروعها، سوى تقديمهما المعلومات التاريخية لمساندة العرض، وأنّ مشروعها اعتمد على شهادات جمعتها طوال مكوثها في المخيمات الفلسطينية لأكثر من تسعة أشهر بهدف جمع المعلومات الشخصية لضحايا ممن شهدوا النكبة.
وتعود فريري لتؤكد ما أكدته في أدنبرة، أنّ عملها ليس سياسياً، بل فن متورط في الحياة وفي قضية إنسانية تصفها بأنّها أكبر وأبشع ظلم حدث في القرن العشرين وما زال مستمراً وواقعاً.