سناء الخوري قصّة حرب استنزاف تخوضها القارة السوداء بكاملها على ضفتها من المتوسّط، يرويها أبو بكر حامد كهال في روايته الأخيرة « تيتانيكات أفريقيّة» (دار الساقي). في روايتَي كهال السابقتين «رائحة السلاح»، و«بركنتيا: أرض المرأة الحكيمة»، كانت الحرب بين إثيوبيا وأريتريا هي المحور. هذا الهمّ السياسي الذي عاشه الكاتب الأريتري المقيم في ليبيا من خلال انخراطه في «جبهة تحرير أريتريا»، يستحضره بشكل آخر في «تيتانيكات أفريقيّة». قصّة المعركة الطويلة قبل الموت غرقاً، لا تعرض منها وسائل الإعلام الغربيّة إلا الجولة الأخيرة: صور أسرى وجثث قذفتها الأمواج على شواطئ الحلم. أمّا الجولات الأخرى التي تسبق وصول المهاجرين إلى المركب، فرواية هروب كبير يرويها كهال في 112 صفحة. صولات وجولات مع الموت يخوضها الراوي/ البطل، ومهاجرون آخرون من أريتريا وإثيوبيا والسودان والصومال، فيتقاسم الحبكة الروائية اتجاهان.
من جهة، وفي سرد سريع للرحلة بين الخرطوم وطرابلس وتونس قبل الوصول إلى المركب، يجول الراوي الأريتري على السماسرة، ثمّ يتنقّل مع بعض المهاجرين في الصحراء، حيث تتعقبهم الهمباتا (قراصنة الصحراء). ينكشف على لسان البطل الذي يضيع اسمه بين ألقابه العديدة، الوجه الآخر للهجرة غير الشرعيّة: عطش، جوع، خوف، وفرار ثمّ... الموت أو أوكار اختارها السماسرة لمن «نجا». يُظهر كهال إصرار المهاجرين على الوصول إلى شواطئ لا تتسع لأمثالهم، فيدفعون كلّ ما معهم ثمناً لمقعد في قارب مثقوب! رحلة عبثيّة، يموت فيها أصدقاء الراوي الذين التقاهم على الطريق، فيما يسجن هو وآخرون قبل أن يُرَحَّلوا إلى بلادهم. زاوية من الوجع الإنساني نادراً ما كانت مطروقة في صراع المهاجرين الداخلي أمام خيار المصير: البقاء أو الرحيل، ومن ثمّ الندم على الرحيل رغم العناد في المواصلة. مواقف إنسانيّة كان يمكن السرد السريع أن يعطيها حقّها أكثر.
من جهة ثانية، يظهر الخطاب السياسي في قلب المغامرة. في أكثر من مكان، نلحظ عدائيّة المهاجرين تجاه رجال الشرطة الذين يتعقبونهم. موقف في تكراره يظهر سخط المهاجرين، ومن خلفهم الكاتب، على أنظمة حكم فاسدة، تمثلها البزات الكاكيّة. ها هي تتعقبهم، تمنعهم من الفرار، كأنّ الوحش الحقيقي الذي يلاحقهم ليس إلا رجال الأمن وما يمثلونه، فهم «سرعان ما يفقدون ذممهم ولا يعود يردعهم قسم قانوني ولا قسم على كتاب» (ص 25). أمّا اللون المحلي المصبوغ بالفقر والحرمان، فذلك لون الناس الذين لا يلومهم كهال على ما أوصلتهم إليه السياسات الظالمة في استغلال ثروات قارتهم. في هذا السياق، طعّم الكاتب الرواية بأكثر من أسطورة وتقليد شعبيّ، حتّى تحوّلت إلى حلقة من حلقات الحكواتي الأفريقي (غرييو) التي يتداور فيها الرواة على سرد قصص إيقاعيّة. أساطير أخرى تتكفّل اللهجات المحليّة، والمقاهي والشوارع بنقلها نيئة، كالإيمان بالسحر والغيب وعشق العرافات. من بين تلك الأساطير قصة مالوك الفنان التي تعبق بالمعتقدات الأفريقيّة وتخبّر عن «الأرباب والآلهة الكثيرة في أقنعتها العجيبة»، كتلك التي استلهمها بيكاسو وأترابه، وحوّلوها إلى رمز للفطرة في الفنّ. هكذا، حوّل كهال «التيتانيكات» إلى أسطورة أفريقيّة من هذا العصر المجنون الذي خرّس كلّ إيقاعات الحكايات.