في «المركز الثقافي الفرنسي» أعمالها تورّط الجميعنوال العلي
إذا رسمت الخراب، فهي تقصد الجمال الذي اختفى. وإذا نحتت الأصنام، فهي تعني القبيلة التي اختلقتها. أمّا الحرب فهي التي تقصدها من دون استعارات فنّية. لا رموز خلف اللوحة، ولن يحتاج المرء إلى تكلّف التأويل، الفن رائق وصافٍ كأنه مُنقّى في معرض إيزيس نصّار «حروب، كوارث طبيعيّة وتنوّع ثقافي» الذي افتُتح في «المركز الثقافي الفرنسي» ويستمر حتى 30 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.
تركت ريشة نصّار آثاراً واضحة للخطّ البدائي العفوي الانطباعي الوحشي. إنّنا نسافر مع المرأة التي تقيم في السفر. مذ قررت ترحالها من أجل الفن عام 1989 فتنقلت من أوروبا إلى أفريقيا إلى آسيا الشرق الأقصى حتى أوستراليا... نائيةً عن المدن المفتعلة، تميل إلى أصل المكان بسذاجته وبريّته، تترك نفسها للمحيط الذي توجد فيه وتتورط وتورِّط الجميع في اللوحة. لذلك، تشعر حين تقف أمام أعمالها بأنّك سائرٌ في دغلوربما كان مبعث هذا الشعور مستنداً إلى قيمتين: تتجسّد الأولى في التقنيّات الفنية نفسها الزاخرة بالغنى اللوني ومزج المواد المختلفة واستغلال كل ما يخدم قطعة الفنانة من بقايا الصحف وأحجار ملساء، وقطع زجاجية وصمغ، وسطوح خشنة وطبقات لونية زيتية في بعض اللوحات، أو مائية في بعضها الآخر. وأحياناً تعود الفنانة إلى استخدام قلم الرصاص لرسم خطوط بسيطة وتبتكر لوحات تبدو كأنّها «اسكتش» أريد له أن يكون متقناً.
هذا الثراء والاقتراحات البصرية والفنّية والتقنية التي تقترحها نصّار البريطانية من أصل لبناني، يُغنيه زخم الأعمال التي يضمّها المعرض: 32 لوحة مختلفة الأحجام، ومنحوتات من البرونز، وستة أعمال تجهيز فراغي مصنوعة بمواد مختلفة. أما القيمة الثانية، فتتمثّل في المعنى أو مضمون مشاهدات اللوحة الواقعي والذهني، فنحن أمام تيمات الحرب، والكوارث الطبيعية والتنوّع الثقافي.
الحرب الحاضرة بمعناها الكبير، تتجسّد في مقطع بصري من العدوان الإسرائيلي على بيروت في تموز 2006 في لوحات «الضاحية الجنوبية بعد القصف الإسرائيلي» و«معمل جابر بعد القصف الإسرائيلي» و«نازحو حزب الله». تلك اللوحات الزيتية الثلاث المغرقة في التفاصيل تشترك في سماء واحدة ملطّخة بالدخان والرماد، النساء الشيعياّت المجلّلات بعباءات سود وملامح جنائزية يتنقلن بين الأنقاض بحثاً عن... البنايات مائلة وعلى جدرانها يمكن أن تقف السيارات على نحو عشوائي فجائعي، المكان بأكمله ترسمه محطّماً مقلوباً رأساً على عقب، قطع أثاث ومقاعد دفاتر مدرسيّة وأحذية ضيّعت أصحابها. يزيد من وقع عالم اللوحة استخدام مواد مختلفة وناتئة كالحصى والصلصال المشغول بمزاج العمل نفسه. كذلك يفيد استخدام قصاصات الصحف مثلما هي في عمل «نازحو حزب الله» مثلاً، بوضع كولاج من صور الأحداث والجرحى والقصف والمكان المهشّم بمطرقة الحرب، إلى جانب صورة رضيع لاجئ يرفع قدميه العاريتين ببراءة، وفناء واسع منهوب بالفوضى، هناك أمّ تتوسّد ذراعها وتحرص على بقاء شالها على رأسها وهي نائمة في شبه عراء.
في اللوحات الأخرى، تبرز ثيمة التنوع الثقافي. تتطرّق نصّار لبضع دول فرنكفونية زارتها مثل مالي والسنغال ومدغشقر وهاواي والمغرب وتونس. لكنها تمد يدها وتمسح الأثر الفرنسي بعودتها إلى الأصول، إلى القبيلة التي ما زالت فجّة وساذجة وأصيلة وحارّة كأنها ثمرة على أمّها.
هذه الصفات تظهر من خلال حمّى الألوان، والطبيعة الخلابة للوحة، الملابس المزركشة، الفقر الواضح في وجوه النساء المجعّدة والمهملة والأسنان المهشّمة التي تكشفها ابتسامات إنسانية فيها كل «عبط» البهجة التي لا يمكن تبريرها مع كل هذا الجوع وشظف العيش الفاقع في الأعمال (يظهر الأطفال بعري قاسٍ وبطون منفوخة من المرض). ولولا ذكاء اللوحة وصدقيتها في اختيار مفردات أصيلة، لقلنا إنّها انطباعات مستنسخة عن شريط وثائقي فرنسي يحكي قصة مستعمرات إفريقية قديمة. لكن المسألة المغرية في متابعة المشاهدة والتمعّن في الأعمال، هو ما تكشفه هذه الأخيرة من غبطة الفنانة بفعل الرسم نفسه، فالمودولات حقيقية وقفت أمامها بعد «عِشرة». ويتضح من نظرات الشخوص وطبيعة العلاقة الحميمة والتفاعلية التي تربطهم بنصّار.
هذه الأعمال هي ساردة حكايات فعلاً، لقد ذهبت الفنانة في توغلها بعيداً، ليس مستغرباً وهي إحدى المستكشفات القلائل. اختلطت بتعاويذ القبائل والطواطم الأفريقية والرطوبة الآسيوية والوجوه الخلاسيّة، مرة في قريتي أمبالاو وإلهوزي في مدغشقر، ثم باندراباس، وسيغو في مالي، وجزيرة كاتبا في فيتنام... لتعاود الرحيل إلى كوالاك في السنغال ثم قرى المغرب وتونس ونادوبا في توغو.
لذلك، نجد في الأعمال نفسها استكشافاً من نوع آخر، الرغبة في تجريب كل مادة متاحة، وكل مدرسة فنية، بحيث تبدو كل مجموعة من اللوحات المتعلّقة بمحور محدّد كأن لها نمطها الخاص، وقد تكون الصفة التي تلائم إنجاز نصّار هذا بأنّه المعرض المهجّن.
في ما يتعلق بالنحت، ثمة تأثر واضح في التماثيل البرونزية المعنونة «تراتبية القبائل الأفريقية» بالفنّ الأفريقي الذي يمتدح عادةً فنانوه المنحوتة بدقة شبَهِها بالإنسان، وإن كان العمل نفسه لا يعبّر عن إنسان بعينه، مثلما هي منحوتة نصّار، لكن عن روح لامرئية تحمل فكرة قبليّة.
الأسطح ليست ملساء ولا خشنة، بل خليط من هذا وذاك... وهي بذلك تُخرج المنحوتة الأفريقية مما توسم به عادةً، وخصوصاً تلك التقليدية: فالأعمال الملساء تجسّد الأفكار الخيّرة، والخشنة تلك الشريرة. ورغم أنّ التماثيل صغيرة الحجم تبرز نصّار النهدين بشكل أكبر لأجساد تحمل تفصيلات ذكورية وتظهر عليها معالم السطوة والهدوء، وإن كان هناك منحوتة لولد صغير يعبث ويستلقي عند قدمين.
في المعرض، ستة أعمال تجهيزيّة تدور غالباً حول الحرب: «رعب الحرب» و«مجازر الحرب» وفيها مجسمات لقبور فارغة وجثث ملقاة هنا وهناك وتوابيت نبشت من مدافنها. وقد ارتكزت نصّار في أربعة من تجهيزاتها على استخدام الصلصال والصمغ والحصى، لتكون مجسّمات شبه زجاجية متروكة لشفافيتها أحياناً، مع وجود ألوان خفيفة وفاتحة تبدو كأنها ملفقة. إذ تتلألأ وتختلف درجتها مع تغيّر شدة الضوء وموقع المتلقي منها.
أحداث أيار (مايو) الماضي تتجسّد أيضاً في «قصف وأحداث أيار 2008»، وهو تجهيز استخدمت فيه الصحف وألوان الزيت والصمغ، وثبت كولاج أوراق الجرائد بعد إغراقه في الصمغ لتصبح قاسية وتحفظ عناوين مثل «قطع طرق وتحركات غاضبة». إنها صحيفة يمكن المتلقي تصفحها واقفاً، وهي مثبتة على حامل خشبي. الغنى الفني والثراء البصري وتناقض الموضوعات واشتباكها، يكشف عن نصّار التي تريد مشاركة كل ما تعيشه مع فنّها. أو على الأدق، إنّها تعيش متتبعةً خيط الفن الذي يلمع في ترحالها.


Guerres, Catastrophes Naturelles et Diversités Culturelles ــــ حتى 30 تشرين الأوّل (أكتوبر) المقبل ـــــ قاعة المعارض في «المركز الثقافي الفرنسي» (طريق الشام، بيروت): للاستعلام: 01/420205



«المزنطرين» مشروعها المقبل... وجمال بيروت الزائلإنّها الفنّانة التي عاشت كأنها اقتُطعت من جذورها، تنقلت طوال حياتها بحثاً عن هوية لكنها أنجزت دورها. هي حلّت هذه المسألة الآن. لقد غدت امرأة الأماكن. كأنها لم تخرج من هوية مكان، المكان يكتسب هويتها حين تكون فيه.
أقامت معرضها الأول (1974) في أوكسفورد وكانت لا تزال طالبة. إذ تلقّت أول تعاليمها الفنية في كلية الفنون في جامعة كامبريدج (1975)، لتنتقل إلى جامعة «نيوكاسل» وتُنهي دراساتها العليا في الفن (1981) قبل أن تقرر أنّ فنها في سفرها. هكذا، انتقلت للعيش عاماً في غانا. ومن هناك، سيصير السفر نمط عيشها. وفي كل عام، ستختار مغامرة وتسافر إليها ستة أشهر. وهي ترسم طوال الوقت حتى والناس يمرون بمعرضها. تجدها جلست في زاوية ووضعت لوحتها التي لم تكتمل بعد وبدأت بالرسم.
ماذا ترسم في بيروت الآن؟ «المزنطرين» تقول ضاحكة، إنّهم موضوع لوحاتها هذه الأيام. تستغرب من الافتعال والتصنّع في ثقافة المدينة، وتتساءل عن بيوت بيروت القديمة وجمالها، ربما رسمت يوماً ما جمال بيروت الزائل وذلك المفتعل في منطقة مثل وسط البلد.