المونودراما التي تقدّمها مايا زبيب هذه الأيّام، متنقلة بين المنازل في بيروت، فرصة لاكتشاف حساسيّة خاصة، هي من سمات جيل جديد يعلن عن وصوله إلى ساحة الفنّ المعاصر في لبنان
بيار أبي صعب
يبدأ فعل المشاهدة من رحلة البحث عن البيت الذي يستضيف الفرجة. والفرجة بدورها هي عن البيت. كل ويك إند يكون الموعد في مكان مختلف. تنسلّ كالدخلاء في سكينة أحياء لا تعرفها بالضرورة. «درج الفاندوم»، عند خط مار مخايل ــــ النهر. تنعطف عند السينما المهجورة، وتصعد لاهثاً حتى البناية رقم 30. الجيران يسهرون أمام منازلهم، آخر ليالي الصيف في بيروت. فضاوة بالهم الموقتة تجتاحك كالعدوى. تُرى كم من القصص تعشش هنا، امتداداً طبيعيّاً لمسرحيّة مايا زبيب؟ العرض يجري في منزل ناس عاديين، فتحوا أبوابهم للفنّانة وربعها (محترف «زقاق») وأثاثها وصناديقها، وجمهورها: عشرون أو ثلاثون زائراً بالكثير، سيدلفون إلى الصالون، يجلسون في الأماكن المتاحة، ليتفرّجوا على «علبة الموسيقى». مونودراما خاصة ــــ كان من الممكن أن تتطوّر إلى عرض أدائي (برفورمانس) ــــ هي إعلان صارخ عن دخول هذه الفنانة الشابة (1981) بقوّة إلى الساحة الفنيّة.
«عم بحكي عن مرا/ مرا بِـ بيتا/ نسوان بِـ بيوتن/ نسوان لأنو هني يلي بيسكنوا البيوت (...) النسوان بالبيت بينسجوا خيوط (...) متل اللعبة بعلبة الموسيقى بيبرموا على حالن لينسوا حالن/ بيغرقوا بالخزاين، بالجوارير والزوايا (...) عم بحكي عن بيوت مسكّرة مفتّحة مدمّرة مهجورة مسكونة بالناس وغير الناس/ عن بيت حبس، بيت فخ، بيت ملجأ، بيت مرا، بيت بيوت.../ عن صناديق للموسيقى للفرجة للأسرار للأحلام/ عم بحكي عن حالي وعنكم...». صوت مراهقة مترددة، حضورها الخجول يستمدّ قوته تدريجاً من تيّار الكلمات الجارف. في البداية تحرّكها يفتقر إلى السلاسة أحياناً. لكن النصّ يأتي قوياً وديناميّاً وحقيقياً ليضمن زخم المشهد. النص نقطة الثقل في عمل مايا زبيب. على لازمة «البيت يبدأ من...» (المفتاح، الغرفة، المرآة، الضوء، المائدة، الرائحة، السرير...)، ينمو ويتفرّع، ويتطوّر تصاعدياً، على شكل قصيدة لولبيّة...
الممثلة وحدها بين كنبات وصناديق ولمباديرات مختلفة. جسدها يحمل خطابه الاستفزازي والرقيق في آن. تروي المرأة الشابة حكايات الأماكن والأشياء، الألوان والروائح والمادة. ذاكرتها وذاكرة الأخريات، فضول ودهشة وألم خافت. ذاكرة أدبيّة وثقافيّة أيضاً. الحقيقة تنصهر بالخيال. تتساءل: هل عاشت تلك اللحظة، أم شاهدتها في صورة؟ ضمير المتكلّمة وضمير الغائبة يتناوبان على السرد. تنسج المؤلفة/ الممثلة/ المخرجة خيوطها العنكبوتيّة بين أرجاء المكان. تترك للموسيقى أن تسند الحالات الشعوريّة. الأماكن تسكنها أشباحها الأصليّة. الأماكن تسكننا حتى بعد أن نهجرها، والرسائل تبقى حين يضيع أصحابها. ذلك الرصد المرهف للتفاصيل، يقول بمهارة الزمن الهارب من وجهة نظر النساء. والحرب التي لم تعشها مايا مباشرة، حاضرة باستمرار في الخلفيّة. الحرب ـــ العنف ـــ الذكورة، مقابل: المرأة ـــ المكان ـــ الخسارة. في جيوب الراوية «ليستة» (قائمة)، مثقلة بالتفاصيل والأشياء الصغيرة، هي سلاحها ضدّ النسيان.
العرض تنضح منه رؤية سوداويّة ومتشائمة، معبّر عنها برقّة وشاعريّة وخفّة، وفرح طفولي أحياناً. تخاطب مايا الجمهور بطريقة مباشرة، لتقول الحنين إلى أعمار لم تعشها ربّما... الصناديق توحي بالأمان، فيها تختبئ أضغاث حياة، سيقوم المشاهدون بالتلصص عليها في النهاية. طوال العرض تحاصرك غصّة غامضة. ترى من أين أتت المرأة الصغيرة بكل تلك الأشياء التي تملأ أماكننا المهجورة، مثل أكياس النايلون الفارغة... وتختزن عمرنا الضائع، خوفنا، فشلنا، أحلامنا العابرة كالأحزان؟ كيف استطاعت مايا زبيب أن تختبر كل هذا الخواء؟


«علبة الموسيقى». 26 ــــ 28 أيلول/ سبتمبر: بيت فارتان أفاكيان (منطقة الظريف، قرب مستشفى الأطباء)، 3 ــــ 5 ت1/ أكتوبر: استوديو سهام ناصر و«زقاق» (منطقة العدليّة) ــــ للاستعلام: 70/996065