كتاب عبد الصمد الديالمي الصادر عن «دار الساقي» في بيروت، تكمن أهميّته في تناوله ظاهرة الأصولية من الباب الخلفي. فالباحث المغربي يستعرض تكوّن المدن الإسلامية الأولى، ويحلّل الخطاب العمراني في ارتباطه بالجنسانية
نوال العلي
تتهيأ خمس نساء منقّبات بعباءات سوداء لصورة سيلتقطها رجل بثوب أبيض، في رحلة سياحية. لا تُظهر الصورة إن كنّ مبتسمات أم باكيات. في الحقيقة لا يظهر أي شيء. وضع عبد الصمد الديالمي هذه الصورة في كتابه «المدينة الإسلامية والأصولية والإرهاب» (دار الساقي) ليتحدث عن «التصوير الأصولي المتناقض». فالرجل في الصورة يؤكد على إخضاع النسوة للعزلة عن المجتمع المحيط، عبر تنقيبهنّ، ومنع «الكافر» أو «الغريب» من رؤية المرأة المسلمة التي يحتكرها. وهو بتصويره لهن في مكان عام يريد أيضاً التعبير عن حداثته، فهو يمنح ويمنع.
تكمن خطورة الكتب التي تناولت ظاهرة الأصولية في نقدها لمتن القضية، لكنّ الجديد هو التطرق لهامشها المخفي. فما دخل العمارة بالجنس؟ وما علاقتها بنشوء المدن ببعديه السياسي والديني؟ هنا تحديداً يستمد كتاب الديالمي أهميته، إذ يتعرض لأكثر من «تابو»، بل يجمع بينها ليصبح أحدها منفذاً إلى الآخر: الجنس، الدين، السياسة.
بدأ الديالمي كتابه بلغة حافظت على خيط مشدود بين الأدب والعلم والتحليل، مستشهداً بالشعر وكتب التراث وأخبار التاريخ، بل ربطها بما يحدث في العالم المعاصر، وصولاً إلى الإحصاء وعلم الاجتماع الحديث. يتناول عالم الاجتماع المغربي في عمله الأصول الجنسيّة النفسيّة للأصولية. هكذا، يبدأ من تكوّن المدن الإسلامية الأولى، وينتقل إلى تحليل دلالات الشكل العمراني وارتباطها بالجنسانية، باحثاً في اللغة كتعبير سوسيولوجي وجنسي. فالمدينة اسم مؤنث تحوطه ذكورية السور التي تهددها جلافة البادية والقبيلة من الخارج. وهناك ثغور (فتحات) وفي قول آخر فروج. وإذا كان مرتضى الزبيدي قد عرّف الثغر في معجمه «تاج العروس» بأنه كل عورة منفتحة، فللمدينة عورة تحتاج إلى حصن، مثلما تحتاج المرأة إلى تكون محصنة. ألم يتحدث سارتر عن الفرج والثغر كفراغ يلتمس ما يملؤه؟.
هذه الأفكار تقود للحديث عن ارتباط نشوء المدينة العربية بظهور الإسلام الذي استخدمها كرحم ينقله من فراغ البادية إلى العمران، حسبما يشير الديالمي في هذه المقاربة الجنسية. وإن كان ظهور الإسلام قد خطط كي تحل الهوية الإسلامية محل القبلية عبر التخلص من البادية، فقد مارست القبيلة مقاومة تحمي بها وجودها. من هنا، أوجدت المدن العربية عشائريتها من الداخل، فاتخذت كل عشيرة حياً تعيش فيه وتتخذ في بنائه شكلاً انطوائياً يحفظها من الاختراق. وأول صور الاختراق هي الزواج بغريب. هكذا، منعت القبيلة المرأة من اختيار الشريك بذريعة الحرص على العرض. فيما كان الوجه الآخر للمنع هو الخوف من تبدد ثروة القبيلة لمصلحة غرباء. «فاضطرت المدينة إلى أن تقنن استهلاك المرأة للفضاء (الحجب)». بهذا المعنى، وقعت المدنية والبداوة في صراع كانت الشخصية العربية ساحته.
ويتحدّث صاحب «المعرفة والجنس» عن السوق الجنسية التي آلت إليها المدن ذات الخطاب الرأسمالي، الحديثة بشكلها والقبلية بمضمونها، ليطرح سؤالاً «هل بإمكان الساكنة الحضرية (العربية) أن تلبي حاجاتها الجنسية الناتجة من تنشئة رأسمالية؟». وترتبط هذه الحاجة في المدن العربية بالفقر كسبب للعجز عن الزواج. فيجد الشاب الحل في «إشباع الرغبة في إطار غير شرعي... أو الاستمساك والصوم مع الشعور بالحرمان، أو إسدال شرعية على علاقة جنسية منها الزواج العرفي والمسيار والمتعة». ويرى الديالمي أن البيت صورة أخرى عن هذه المدينة، من حيث الاكتظاظ وعودة التساكن بين الأجيال نتيجة الغلاء وأزمة السكن. ما يحول دون خصوصية الزوجين، وغالباً ما يضطر الزوج إلى «المضاجعة السريعة المسروقة شبه الآثمة». كما يؤدي إلى تسهيل «اللواط والسحاق وزنى المحارم»، فالمدينة العربية تثير لكنها تمنع أيضاً، فيجد كثيرون ملجأهم في الأنثى المتوافرة في المنزل.
لهذه الأسباب وغيرها، بدأ الرجل يحمّل المرأة مسؤولية الخراب الذي يحدث، فهي موضع الإغراء والفتنة وهي المسؤولة عن انحرافه، وهي أيضاً التي تضطهده بحضورها السافر في المدينة. من هنا، جاءت ضرورة الحجب ومنها الحجاب، الذي تواطأت معه المرأة أيضاً. يقول الديالمي «العجز الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يعانيه المسلم المقهور، ويمنعه من التحكّم في النساء، يقوده إلى التشبّث بإسلام يحفظ له امتيازاته الذكورية بغض النظر عن أوضاعه المادية المزرية، ويحفظ له حقه في متعة جنسية متعددة».
كما يربط الديالمي استخدام «العنف الرمزي» الذي تحدث عنه عالم الاجتماع الفرنسي بورديو، بالجماعات الأصولية التي توظفه لإحكام سيطرتها، عبر «تكفير المواطن» تبريراً لممارسة العنف المادي ضد الآخر ومحاربة حرية المعتقد. وكمثال على العنف الرمزي، يتناول الباحث الكتب التي تدعمها أموال النفط لتعميم الفكر الوهابي وأسلمة الدول تبعاً لهذا الفكر، لا بل صبغ الإسلام نفسه وفقاً لهذا النموذج. كل ذلك للوقوف في وجه الثورة الشيعية الإيرانية حسب الديالمي الذي يتساءل عن حق السعودية التي تستغل مكانتها الدينية، بأن تروج لوهابيتها على حساب التنوّع الإسلامي. يضم الكتاب، وجهات نظر مختلفة قادت صاحبها للوصول إلى «إسلام علماني»، داعياً إلى إعادة النظر في أسس تدبير النصوص والاجتهاد في قراءتها.