جمهور الموسيقى المترفة يعرفه جيّداً. إنّه أحد كبار الطرب والإنشاد الصوفي، سليل مدرسة عريقة متوارثة منذ الشيخ عبد الغني النابلسي. فرقة «الكندي» أسهمت في شهرته العالميّة، وموعده مع الجمهور الدمشقي، جمع بين الأذان والتجويد والأناشيد الوطنية والموشَّحات
بشير صفير
تعيش دمشق حالة فنية استثنائية هذه السنة، قد لا تتكرر في المدى المنظور. عاصمة الثقافة العربية لعام 2008 احتضنت حتى الآن أجمل الأمسيات الموسيقية، وشهدت الكثير من النشاطات الفنية والثقافية. موسيقياً، تنوّعت اللائحة بين أبرز الأسماء الأجنبية والعربية من جهة، ورموز الساحة المحلية من جهة ثانية. وقبل أسابيع، كانت الشام على موعد مع شيخ المنشدين حمزة شكّور، في أمسية إنشاد صوفي مع فرقة «رابطة المنشدين بدمشق» التي أسّسها عام 1974.
الشيخ حمزة شكور المولود في أحد أحياء دمشق عام 1944، هو رمز الحفاظ على التراث الغنائي الشعبي (السوري عموماً، والدمشقي خصوصاً) الذي يتمثّل في الطرب كما في الإنشاد الصوفي الأصيل المتوارث منذ جيل الشيخ عبد الغني النابلسي في الجامع الأموي الكبير. جال شكّور العالم مع فرقته، وشارك في مهرجانات دولية وكان هدفه إيصال القِيَم الفنية الحضارية التي ينطوي عليها التراث الإسلامي. هكذا سعى إلى محو الصورة المغلوطة التي تكوّنت في أذهان الكثيرين في الغرب. في عام 1983، أسّس الموسيقي المستشرق السويسري جوليان فايس (الذي ما لبث أن اعتنق الإسلام وأصبح اسمه جلال الدين) فرقة إنشاد صوفي أطلِق عليها اسم «الكندي» نسبة إلى عالم الفلك والرياضيات والفيلسوف العراقي محمد بن يعقوب الكندي، واضع أول سُلّم موسيقي عربي. تولى الشيخ حمزة إعداد برنامج الفرقة الذي يتألف من إنشاديات وابتهالات صوفية، والذي يجري تجديده كل ثلاث سنوات. وهنا أيضاً أسهمت فرقة «الكندي» في إيصال الإنشاد الصوفي الذي ترافقه الدراويش المولوية (تقوم بما يسمى الطقس المولوي أو الدوران تحقيقاً للانخطاف والطرب بالخالق)، وذلك بفضل حفلات حول العالم وتسجيلات أصدرتها شركات أسطوانات كبرى.
في الحفلة الشامية الأخيرة، تربّع الشيخ حمزة شكور بثوبه التراثي الأنيق كالملك الراعي وسط فرقته الضخمة (13 كماناً، 2 تشلّلو، 2 قانون، ناي، أكورديون، 6 آلات إيقاعية شرقية، كونترباص، وكورس من 20 شاباً و19 فتاة)، الفائقة الترتيب والتنظيم، بدءاً بالأزياء وصولاً إلى الأداء الموسيقي والغنائي. قدم الشيخ حمزة برنامجاً متنوعاً ضم الأذان والتجويد (الذي تولاه منفرداً صوت رائع من أعضاء الكورس)، والأناشيد الوطنية المتغنية بالشام، والموشَّحات والصلوات والشعائر والأغاني الطربية... وانضم الدراويش ــــ أو فرسان العشق الإلهي، كما يسمّيهم الشيخ حمزة ــــ إلى الأمسية للدوران على الإيقاعات الصوفية، وبينهم أولاد صغار نافسوا الراشدين في الفتل. وأصغر الدراويش طفل قد يكون في الخامسة من عمره أو أكثر بقليل، جلس بثوبه الأبيض طوال الأمسية وسط المسرح، حتى ظننّا أن لا دور له هذه الليلة. لكن في الختام نهض الملاك وتوسط الدراويش وراح يدور مثلهم، فتولى أحد أعضاء الفرقة احتضانه خوفاً من أن تسقطه الدوخة أرضاً عند انتهاء العرض! وعندما دخل الشيخ حمزة في دائرة الموشَّحات، احتلّت المسرح فرقة من الفتيات اليافعات يقدّمن لوحات تراثية راقصة، ويتمايلن بأثوابهن الأنيقة ذات الطابع الأندلسي الساحر.
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن سوريا بين الدول العربيّة التي حافظت على تراثها الموسيقي المتنوّع، في مجال التقاليد الصوفيّة تحديداً. ونشير في هذا السياق إلى مدرسة إنشاد صوفي أكثر شعبية، ما زالت تتوارث هذا الفن الإسلامي العريق، إنّها المدرسة الحلبية التي يعدّ بين رموزها عمر البطش (توفي عام 1950)، وصبري مدلل (1918 ــــ 2007) وحسن الحفار وفرقته (زار لبنان قبل ثلاث سنوات)، وآخرون.


أين الشباب؟

ماذا عن الحضور في أمسية الإنشاد الصوفي التي أحياها الشيخ حمزة شكور وفرقته الشهر الماضي في دمشق؟ في «دار الأسد للثقافة والفنون» احتشد هواة هذا اللون التراثي وسائر الذوّاقة وأهل السماع، لكن القاعة لم تمتلئ تماماً. واللافت أن معظم الحاضرين كانوا من الأجيال السابقة، فيما لم يمثّل الشباب سوى نسبة بسيطة من الجمهور. من يقصد أمسية لحمزة شكور يتصوّر أنه سيغرق في بحر من المشاهدين، الشباب تحديداً. فهل تنفضّ الأجيال الجديدة تماماً عن هذا الفنّ؟ فيما الغرب يولي الدراويش المولوية اهتماماً استثنائياً، إذ يعدّ دورانهم رقصاً مينيمالياً... يصنّفه في خانة ما بعد الحداثة!.